إنشائيّة القصّة القصيرة
في مجموعة "المحطّة الأخيرة"
لـ"محمّد المنصور الشقحاء"
( ورقه قدمها أ . د . محمد
القاضي: في ملتقى نادي القصيم الأدبي الرابع – القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا
في المملكة العربية السعودية 5- 7 / 11 1429 ).
تم نشرها في الكتاب الصادر ( الشقحاء قاصا )
الصادر عن نادي القصيم الأدبي عام 1435 وفي كتاب ( القصة القصيرة والقصة القصيرة
جدا ) دراسات نقدية – 2 الصادر عن كرسي الأدب السعودي بجامعة الملك سعود عام 1437
اعداد وتحرير حسين المناصرة وخالد اليوسف وفي كتاب ( قراءات تونسية في الأدب
السعودي الصادر عن دار صامد للنشر والتوزيع صفاقس - الجمهورية التونسية اكتوبر 2013
أ. د. محمّد القاضي
كلّيّة
اللغة العربيّة. الرياض
مقدّمات نظريّة
إنّ
البحث في إنشائيّة القصّة القصيرة يستدعي منّا الوقوف عند محطّتين رئيسيّتين
إحداهما منهجيّة مدارها على الإنشائية والأخرى أجناسيّة محورها القصة القصيرة.
أ.
فالإنشائية هي كل نظرية للأدب داخلية، ومن ثم فإن مقصدها هو إقامة مقولات نستطيع
بها أن نتبين وحدة كل الآثار الأدبية وتنوعها. وما الأثر الفردي بهذا المعنى إلا
صورة من هذه المقولات. فهو مثال لها لا يرقى إلى أن يصبح هدفا من أهداف البحث. إن
الإنشائية لا تهتم بالآثار المفردة، ولا يعنيها أن ترصد خصائص السرد أو الحوار أو
الوصف في نص معلوم، فغايتها إنما هي
استخراج نظرية للسرد أو نظرية للحوار أو نظرية للوصف تبين لنا ما يجمع بين الآثار
الأدبية وما يجعل الاختلاف بينها في تلك النقطة جائزا.
ويحيلنا
هذا على هاجس مستبد بالإنشائية هو أن تبلغ مبلغ العلم. ذاك أن العلم في أي ميدان
من الميادين لا يتخذ من الظاهرة الخاصة موضوعا، وإنما يطلب القوانين التي تتحكم في
الظواهر. إن الإنشائية تختص دون سائر المحاولات السابقة بكونها لا تهتم بتأويل
الآثار الماضية تأويلا صحيحا، بل تهتم بإبداع أدوات لتحليل تلك الآثار. فموضوعها
ليس مجموع الآثار الأدبية الموجودة، وإنما هو الخطاب الأدبي من حيث هو مبدأ توليد
لنصوص لا تحصى ولا تعد. فالإنشائية بحث نظري تغذوه الأبحاث التجريبية وتثريه،
ولكنها لا تؤسسه.
وعلى
الرغم من طموح الإنشائية إلى النفاذ إلى جوهر الأدب و إدراك حقيقته فإنها تقدم
أدوات ووسائل تمكننا من وصف نص أدبي، فنميز بين مستويات المعنى، ونضبط الوحدات
التي يقوم عليها، وما ينشأ بينها من ضروب العلاقات.
ويرى
جاكبسون أن هم الإنشائية الأساسي أن تجيب عن السؤال التالي: "ما الذي يجعل من
رسالة كلامية عملا فنيا؟". ومن هنا فإن غايتها أن تقف على ما يتميز به فن
الكلام من سائر الفنون ومن سائر الممارسات القولية. وبهذا يكون من حق الإنشائية أن
تتبوأ المحل الأرفع في الدراسات الأدبية.
على
أن اعتبار الإنشائية ركنا ركينا من الدراسات الأدبية لا ينبغي أن يجيز لنا أن نخلط
بينها وبين النقد الأدبي. ذلك أن الإنشائية بحث عن القوانين المتحكمة في الخطاب
الأدبي، أما النقد فهو عمل تقويمي غايته الحكم على الآثار الأدبية حكما معياريا في
أغلب الأحيان. فالناقد بمثابة الرقيب على الأثر الأدبي، أما الإنشائي فهو باحث عن سمات
النص وخصائصه وقوانينه[1].
ب. أما تنزيل القصة القصيرة في سياق الأجناس
الأدبية فإنه يقتضي منا أن نقر بأن القصة القصيرة وإن كانت وريثة لأشكال سردية
ضاربة في القدم فإنها لم تستو جنسا من أجناس الأدب إلا في فترة متأخرة لا تجاوز القرن ونصف القرن "إذ لا
تعود بها أكثر المصادر إسرافا في المغالاة في إضفاء طابع القدم عليها إلى أبعد من
القرن [التاسع عشر]"[2].
إن
غضارة هذا الجنس وسرعة التحول التي وسمت مسيرته جعلتا نظريته متقلقلة، إذ هو جنس
متقلب لا يعرف للاستقرار وجها، ديدنه التجريب والنزوع إلى مجاوزة المألوف. غير أن
فكرة الانتقاض على القديم وعلى ما هو مؤسس هي أهم ثوابت القصة القصيرة. فهذا الجنس
الأدبي الوليد الذي لم ينشئ له أتباعه ضوابط صارمة دأب على مناوشة أسلافه والعبث
بهم، واستضافة الأشكال المتمردة أو التي لم يسمح لها بالدخول في منظومة الأدب
الرفيع.
وقد
تجلت هذه الهامشية المتأصلة في القصة القصيرة في اتجاهها إلى شخصيات خارجة عن الصف
في جل الأحيان. ذلك أن كاتب القصة القصيرة "فنان شديد الفردية، ولهذا فإنه
ينظر إلى الحياة دائما من زاوية خاصة، ويتلقاها بحساسية خاصة، ويرى الإنسان فيها
دائما في موقف مأزوم...[إن]العالم الذي يؤثره كاتب القصة القصيرة يتألف من أشخاص
مأزومين مثله. أو على حد تعبير القصاص الناقد الإيرلندي فرانك أوكونور: جماعات من
الشعب المغمور، أيا كانت هذه الجماعات في وقت ما: صعاليك أوفنانين أومثاليين
مستوحشين أو حالمين أوقساوسة فاسدين"[3].
وأيا تكن هذه الشخصيات فالجامع بينها أنها تعيش على هامش الجماعة، وتعاني من عدم
القدرة على تمثل القيم السائدة.
وهذا
الإفساح للشخصيات الهامشية المأزومة هو الذي يفسر لنا انجذاب القصة القصيرة إلى
الخرافة والنادرة وخروجها من رحميهما كما يقول "بوريس إيخنباوم"[4].
وتدعم "ماري لويز برات" هذا الرأي مؤكدة الصلة المتينة القائمة بين
القصة القصيرة والقصص الشعبي، تقول: "نجد في القصة القصيرة إحياء لبقايا
التراث القصصي الشفاهي والشعبي والديني، مثل الحكاية الخرافية وقصص الأشباح
والعفاريت والقصة الدينية أو المثل والقصص الأخلاقية وقصص الحيوان. وما زال الكثير
من أنواع هذه القصص قائما في الثقافة الشفاهية وفي النصوص الدينية وفي أدب
الأطفال. وقد استطاعت القصة القصيرة أن تستوعب كل هذه النوعيات في الأدب بصفة
عامة"[5].
إن لهذا القول بعدين أساسيين أولهما أن القصة القصيرة كانت على نحو ما امتدادا
لهذه الأجناس الشعبية التي ظهرت قبلها، والثاني أنها اضطلعت بمهمة إدراج هذه
الأجناس الهامشية في حرم الأدب الرفيع[6].
***
من
هاتين الكوتين المتجاورتين والمتراكبتين سعينا إلى التوقل في مضائق مجموعة الكاتب
السعودي محمد المنصور الشقحاء الموسومة بـ"المحطة الأخيرة"[7]. وقد
رأينا أن نتوقف في قراءتنا إياها عند ثلاث قضايا مدارها على الجنس الأدبي والخطاب
والتمثيل والإبداع.
1. قضية
الجنس الأدبي:
تستوقف
قارئ هذه المجموعة منذ البدء عتبة رئيسية من عتباتها تجلت في العنوان الفرعي الذي
ظهر في صفحة الغلاف الأولى وفي الصفحة الثالثة من الكتاب. وهذا العنوان الفرعي
الذي هو بمثابة اللافتة الأجناسية ينص على أن "المحطة الأخيرة"
"حكايات وقصص قصيرة". إن هذا الجمع بين الجنسين يثير بعض الاستغراب
والحيرة. فهذان الجنسان - وإن كانا من أجناس السرد - يفرق بينهما أن الحكاية جنس
شفوي جماعي قديم، في حين أن القصة القصيرة جنس مكتوب شخصي حديث. فكيف نفسر عطف
المؤلف القصص القصيرة على الحكايات في عنوان الكتاب؟ هل المقصود منه أن النصوص
التي تضمها هذه المجموعة تتمازج فيها الحكايات والقصص القصيرة، أم إن المقصود هو
أن بعض النصوص حكايات وبعضها الآخر قصص قصيرة؟ وما سر الترتيب الذي ورد عليه
اللفظان؟ هل يعني أن المجموعة تحوي في قسمها الأول حكايات وفي قسمها الثاني قصصا
قصيرة، أم يدل على أن القصص فرع من الحكايات؟
إن
هذه العتبة تجعل مقروئية هذه النصوص ملتبسة ملغزة منطوية على غموض يفتح باب
التأويل على مصراعيه: فربما دلت على حيرة المؤلف إزاء الانتماء الأجناسي لهذه
النصوص، وشعوره بأنه لم يمتثل في مجموعته هذه للمواصفات الأجناسية المتعارفة للقصة
القصيرة. وربما نمت هذه العتبة على رغبة المؤلف في حفز القارئ إلى مجاوزة عاداته
القرائية وإشعاره بأنه مقبل في هذه المجموعة على كتابة مغايرة.
فإذا
نحن انتقلنا من العنوان إلى متون النصوص وجدنا كلمة "الحكايات" مستخدمة
مرتين في صيغة الجمع. جاءت أولاهما في قصة "الغانية" التي افتتحت بقول
الراوي: "تبذلت الحكايات ونفق الصدق، زمن جد لا يحمل هوية. تراقص فيه أشباح
تريد سيادة من ورق"[8]. إن
الحكايات استخدمت هاهنا في معنى عام، فكانت دالة على القصص أيا كانت: شفوية أو
مكتوبة، جماعية أو شخصية. وقد ارتبطت هذه الحكايات بالابتذال، وعلل الراوي ذلك
بمجافاتها الصدق. على أن بقية الحديث – وإن لم تقدم معنى أجناسيا محددا لكلمة الحكاية
– تضيق من التعميم الأول حين تنزل هذه الحكايات في الزمن الجديد الذي صار بلا
هوية. إن هذا القول الذي لم يسند إلى راو معين ولا إلى شخصية محددة يمكن أن يكون
معبرا عن موقف المؤلف نفسه الذي سئم الزيف الرائن على حكايات هذا العصر، ومل
الحكايات التي تتستر على الحقائق فتصور الأشباح كما لو كانت أسيادا، ومن هنا فإنه
أقبل على كتابة حكايات من جنس جديد تحل محل الحكايات الرائجة.
أما
الاستخدام الثاني لكلمة "الحكايات" فجاء في قصة "الغرفة
الثالثة" حيث يقول الراوي: "في الطريق إلى الأصدقاء لقضاء وقت غفل عنه
الزمان بالحديث عن فائقة التي رحلت وتركت لنا خلق الحكايات"[9].
إن كلمة الحكايات لم تستخدم هاهنا بمعنى اصطلاحي بدليل أنها ارتبطت بالجماعة من
جهة وبالمشافهة من جهة أخرى. إلا أن مكمن الطرافة في هذا السياق مزدوج: هو في شقه
الأول دائر على ارتباط الحكايات بالخلق أي بالإبداع، وفي شقه الثاني دائر على
وظيفة الحكايات وتتمثل في التعويض عن الفقدان. إن كلمة الحكايات لم ترد في هذا
الشاهد بمعنى الجنس المتوارث بل دلت على أن المؤلف ساقها مرادفا للجنس الإبداعي،
بوصفه مؤلفا أو منشئا للحكايات.
إن التأليف
بين هذين الشاهدين يؤكد لنا أن جمع محمد المنصور الشقحاء في اللافتة الأجناسية
لكتابه بين كلمتي "الحكايات" و"القصص القصيرة" نابع من موقف
يرى أن الحكاية ضرورية للفرد وللجماعة إذ بها يتغلب على الرداءة ويعوض عن الفقدان،
وما القصة القصيرة إلا شكل حديث من أشكال الحكاية يصنعه المبدع لمقاومة مظاهر
الزيف ومواجهة تيار الابتذال.
وليس من شك في أن هذا المفهوم المخصوص للكتابة السردية
سينعكس على مجمل نصوص هذه المجموعة من حيث انتماؤها الأجناسي. وفي هذا السياق
وجدنا أقاصيص "المحطة الأخيرة" متوزعة على جدولين كبيرين: تقليدي
وحداثي. ففي الجدول الأول تطالعنا قصة "السجن" وهي ذات بنية خرافية يسرد
فيها الراوي مرحلة من مراحل حياته دخل فيها السجن لسبب لا يعرفه، ثم حين أفرج عنه
أعاد بناء حياته رغم ما واجهه من مصاعب. ومن هذا القبيل ما نجده في قصة
"العنقاء" وهي تروي حكاية بنت هي ثمرة زواج أحد القرويين من فتاة غجرية،
وما وقع لها من أحداث استمرت من الفترة التي كانت فيها جنينا في بطن أمها إلى انتقالها
مع خالها إلى منزل في أحد الأحياء الفقيرة، مرورا بطفولتها ودراستها وزواجها
ومغامراتها. والناظر في هذا النص لا يعييه أن يرى فيه بنية هرمية روائية تتلاحق
فيها الأحداث وتتداخل مصطبغة بصبغة خرافية، تقودنا من التوازن الأولي إلى الانفراج
النهائي الذي يوحي من خلال الحركة الدورية بأن الأمور وإن تغيرت لا تلبث أن ترتد
إلى أصولها. وتدخل في هذا الجدول قصة "الغانية" التي تنهل من فن الخبر
التراثي، إذ تبدأ بمقدمة على لسان راو غفل، ثم لا تلبث أن تسند الكلام إلى راوية متكلمة: "قالت وهي تحدث الصمت:
ولدت في منزل من منازل قروا الفارعة، والدي الأسمر أحد خدم أمير عجوز اتخذ الطائف
مصيفا"[10].
وإلى
جانب هذه الأجناس التقليدية التي تخللت نصوص المجموعة نجد ملامح من أجناس أخرى
تنتمي إلى منظومة حديثة لعل أبرزها جنس المذكرات أو اليوميات الذي يطالعنا في قصة
"أوراق من دفتر سعدا"، وقد بنيت على ثلاثة عشر مقطعا مرقمة أغلبها يفتتح
بإشارة زمنية، من قبيل: "وأنا في الثامنة من العمر توفيت أمي [..] بعد عام
تزوج والدي [..] ذات ليلة صائفة شاركت خديجة في الغناء والرقص [..] في العام
الثالث على غياب زوجي [..] في ليلة غناء بصالة داخل فندق مسرة"[11].
إن رواية هذه القصة على لسان المتكلم وقيامها على مقاطع روعي فيها التعاقب الزمني
يجعلانها مشدودة إلى الأدب الذاتي وعلى وجه الخصوص إلى المذكرات أو اليوميات.
ويمكننا أن نضم إلى هذا الجدول قصة "المحطة الأخيرة" التي تقع أحداثها
في اليوم الرابع من وفاة امرأة، وتشغل حيزا كبيرا منها رسالة تركتها الفقيدة
لأبنائها تحدثهم فيها عن ماضيها وتكشف لهم سرا خطيرا مداره على أن نسبهم لا يتصل
بأبيهم الذي يعرفون بل يتصل برجل آخر هو ابن خالها المريض. إن انشداد هذه القصة
إلى جنس الرسالة واكتظاظها بعبارات عامية
برر بأن الممرضة التي كتبتها ذكرت أنها "من إملاء المريضة، الرسالة في صفحتين
من دفتر مدرسي بقلم مرتبك وحروف تآكلت أطرافها"[12].
وهذا النص شاهد على أن القصة القصيرة استندت إلى الرسالة وإلى أدب الاعتراف. وبإمكاننا
أن نلمح آثار البنية الروائية في قصة "أبو سعيد" التي قامت على سرد
أحداث يكاد لا يجمع بينها إلا مبدأ التعاقب الذي يحكمه النظم، وهو خصيصة من أبرز
الخصائص المتحكمة في قصص المغامرات. وتدخل في هذا الجدول قصة "الفأر"
التي تنتمي إلى الأدب الفانتاستيكي أو العجائبي، إذ تحدثنا عن رجل يعود إلى بيته
في الثالثة صباحا، وحين يتمدد لينام يحس
أن فأرا "بدأ يقرض قدمه ويلتهم أصابعه، أدغم في ظلمة دامسة"[13].
ولكن الرجل يستيقظ فنتوهم أن الفأر لم يكن إلا حلما، غير أن الحقيقة غير ذاك:
"جلس في الفراش، تلفت حوله،كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة. الفأر ما زال
يقرضه. تمدد مجددا. أغمض عينيه وشبك ذراعيه على جبهته ورحل"[14].
إن هذا التداخل بين الواقع والحلم يشد النص إلى الجنس الفانتاستيكي الذي ازدهر في
القصة الغربية في القرن التاسع عشر.
بين
هذين الجدولين المتقابلين – جدول القديم وجدول الحديث – وجدنا منطقة مشتركة تجسدها
قصة "القنبرة" التي بنيت على أساس المراوحة بين عالمين: عالم الإنسان
وفيه تروى قصة امرأة ذات علاقات مشبوهة، وعالم الحيوان ومداره على التنين والدب
والبوم والقرد والخرشة وابن عرس وأم عريط. وإذا كانت قصة البشر قائمة على المشاكلة
والتتابع فإن قصة الحيوان تقوم على المفارقة والتقطع،
بحيث إن القصة تتقدم من خلال التوازي غير المعلن بين العالمين. وبداية هذه القصة
توحي بأنها حكاية مثلية أبطالها من الحيوانات، غير أن الراوي بتعمده أسلوب التوازي
بين القصتين أراد أن يستن طريقا جديدة بين القديم والجديد. ولعل ما زاد هذه
الطريقة بروزا تلك الإشارة التي ختم بها النص، وفيها أن "ابن عرس والتنين
مشاهد من رسالة "تداعي الحيوان على الإنسان" لإخوان الصفا"[15]،
بحيث إن التناص جاء هنا ليعدد أصوات النص وليضع انتماءه الأجناسي في مساحة من
الغموض المقصود. فكأننا منه إزاء قصة قصيرة تحوي حكاية مثلية، أو إزاء حكاية مثلية
تتضمن قصة قصيرة.
وعلى
هذا النحو نرى أن تلك اللافتة الأجناسية المزدوجة التي بها افتتحت المجموعة لم تكن
ناشئة عن تردد المؤلف في شأن الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه نصوصه بقدر ما كانت
إعدادا للقارئ لتلقي هذه النصوص بطريقة جديدة تمهد له السبيل لابتكار مقروئية
جديدة لها، والابتعاد قدر الإمكان عن الطرق الممهدة في فك رموزها.
2. مسالك
الخطاب
إن هذا الذي بدا لنا في مستوى الانتماء الأجناسي لنصوص
هذه المجموعة ينعكس على خطابها السردي الذي لم يلتزم سمات موحدة، بل جاء مشتركا
متعدد الخصائص وكأنه بذلك يعلن رفضه للمحلات الجاهزة والمقاعد الوثيرة.
فمن حيث الزمن تأخذنا هذه النصوص إلى سمتين على طرفي
نقيض. إذ تقدم لنا المجموعة قصصا تمتد على فترة زمنية طويلة، حتى إن القارئ ليشعر
أنها متابعة لمسيرة حياة بأكملها. وقد رأينا نموذجا من ذلك في قصة "أوراق من
دفتر سعدى". ويمكن أن نظفر بنماذج أخرى كثيرة من قبيل "السجن" أو"الغانية"
أو"العنقاء". وحسبنا للتدليل على ذلك أن نتوقف عند قصة "أبو
سعيد" التي يرسم لنا الراوي فيها لوحة من حياته يستهلها بقوله: "قضيت
طفولتي في مدرسة دار الأيتام، ولما بلغت الثامنة عشرة دخلت المدرسة العسكرية فتطور
عملي وتدرجت في وظيفتي. في الثلاثين تزوجت شيماء ابنة فلسطيني يعمل مترجما في
دائرتي، في السنة الأولى جاء سعيد وفي السنة الرابعة سماح."[16].
ويمضي الراوي يحدثنا عن حياته فيصل إلى طلاقه وتزويجه ابنه وملله العمل:
"استقر في ذهني وقد تجاوزت الخمسين الاستقالة، غير أن الإدارة رفضت ذلك فأخذت
إجازة سافرت فيها إلى جدة"[17].
إن هذا اللون من القصص مشدود إلى ممارسة تقليدية تقوم
على رواية الأحداث الخارجية على حساب النفاذ إلى أعماق الشخصية واستبطان هواجسها.
ولما كان الفضاء النصي للقصة القصيرة محدودا فإن هذا الاختيار يضطر المؤلف إلى
تقطيع الزمن بانتقاء اللحظات التي يراها حاسمة في مسيرة الشخصية، مما أضفى على هذه
القصص صبغة انتقائية. وقد تجلى هذا الانتقاء في صور مختلفة منها ترقيم أجزاء القصة
نحو ما نجده في قصص "أوراق من دفتر سعدا" و"وهم"
و"مدى" و"العنقاء"، ومنها عنونة الوحدات من قبيل قصة
"فريج" التي قسمت عناصر بحسب أسماء الشخصيات: "ريم"،
"فرج"، "سمر"، "نورة"، "عبد العزيز".
أما السمة الزمنية الأخرى التي تنطوي عليها هذه النصوص
فتتجلى في الاستغراق في لحظة مخصوصة من حياة الشخصية، وأظهر ما يكون ذلك في القصص
القصيرة جدا أو ما اصطلح عليه بالقصة الومضة، ويجاوز عددها ثلث النصوص الماثلة في
كتاب "المحطة الأخيرة". ولعل هذا الاستغراق هو الذي يفسر لنا انكفاء
شخصيات هذه الأقاصيص على عوالمها الباطنية وخاصة منها عالم السهو أو الحلم، على
نحو ما نجده في قصة "ألم": "تقطعت أنفاسه والعرق يتصبب بغزارة،
كانت هي، أخذ يركض، شاهده أحدهم، لحق به، وتبعه الآخرون. فتح عينيه، نهض من
الفراش، وجدها في غرفة الأطفال"[18].
فهذا الزوج يرى فيما يرى النائم أن زوجته تلاحقه، وأنه إذ يحاول أن يفر منها يجد
نفسه ملاحقا من قبل عدد من الناس. غير أنه حين ينتبه من غفوته يجدها في غرفة
الأطفال. والقصة رغم الاختصار الشديد في الزمن تفتح للقارئ بابا وسيعا على
التأويل. فكأن هذا الزوج يشعر في لاوعيه بأنه أذنب في حق زوجته وأنها تطارده فيسعى
إلى الهروب، ولكنه يحاصر وتغلق في وجهه الدروب. وحين يفتح عينيه يجد زوجته مع
الأطفال، وهذه إشارة ترمز إلى أن الأبناء هم الحاجز المعنوي الذي حال دون الزوجة
ودون محاسبة زوجها.
إن هذا الازدواج في زمن السرد بين الاختصار والتمطيط،
بين المجمل الذي يطوى فيه الزمن طيا والوقف الذي يعلق فيه الزمن حتى ليكاد ينحبس
يتجلى في صورة أخرى من خلال أساليب القص التي تحضر في السرد حينا وفي المونولوج حينا
آخر. فالسرد التقليدي يهيمن على القصص التي تروى فيها مرحلة مطولة من حياة
الشخصية، أما المونولوج فيظهر في النصوص التي تتوغل في بواطن الشخصية ولا تهتم إلا
بلحظات قصيرة مقتطعة من حياتها.
ويكتمل المشهد في ثالث أركان الخطاب وهو أنماط الرؤية.
فقارئ هذه النصوص لا يعييه أن يرى فيها تجاور رؤيتين: تظهر أولاهما غالبا في
الأقاصيص النهرية التي تشمل حياة الشخصية وهي الرؤية من خلف، وتتجلى الأخرى في
الأقاصيص الومضة وهي الرؤية المصاحبة. وينعكس هذا على علاقة الراوي بمرويه. وفي
هذا السياق نلاحظ نزوعا في هذه المجموعة إلى إسناد الرواية إلى المتكلم، وهي ظاهرة
يفيد الإحصاء أنها موجودة في أكثر من نصف القصص، وهذا ملمح حداثي كأن المؤلف أراد
به أن يحيد عن المنحى التقليدي الذي يمكن أن يوحي به عدد من نصوص كتابه.
3. التمثيل
والإبداع
إن ما قادنا إليه تحليل الطريقة المعتمدة في سرد
الأشياء في نصوص هذه المجموعة يمكن أن يفتح لنا بابا على العالم الممثل و رؤية هذا
العالم. فهذا البحث عن لغة سردية جديدة لا تمتثل للقيم الجمالية السائدة ولا تركن
إلى قالب فني محدد هو في رأينا دليل على وجود أزمة تسعى هذه القصص إلى استقصائها
وإخراجها من حيز المسكوت عنه إلى العلن، دون أن يعني ذلك الوقوع في المباشرة أو
التصريح الفج.
وملامح هذه الأزمة متعددة لعل أولها ما يتصل بالفرد
الذي يعاني من قلق في كينونته كثيرا ما يلجئه إلى عوالم اللاوعي متمثلة في الحلم
الذي يمتد بسلطانه فيفيض على الواقع وينشب فيه أظفاره. كذلك كان شأن بطل قصة
"الفأر" الذي عاد إلى بيته في الثالثة صباحا فصلى ركعتي السنة و"نام
على بطنه بعد أن دفن رأسه في الوسادة. سمع حركة حوله. انصرف إلى أعماقه، بينما فأر
بدأ يقرض قدمه ويلتهم أصابعه، أدغم في ظلمة دامسة. جاء صوت قرع على الباب الخارجي مختلطا
بصوت دقات الساعة. تنبه، تأمل الساعة. شيء يحجبها عنه. جلس في الفراش. تلفت حوله،
كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة. الفأر مازال يقرضه. تمدد مجددا. أغمض عينيه
وشبك ذراعيه على جبهته ورحل"[19].
إن هذا الرجل الذي يبدو منسجما مع عالمه من خلال الصلاة يعيش وحدة قاتلة تجعله
ينكفئ على نفسه في النوم، فيدفن رأسه في الوسادة وينصرف إلى أعماقه. وما حلمه بهذا
الفأر يلتهم أصابعه إلا تعبير عن الخوف من الانقراض والتلاشي. غير أن تنبه الرجل
من نومه لم يوقف الحلم، وكأن عقارب الساعة أكدت ذلك الموت البطيء المحتوم الذي
يتسلل إليه. لذلك يغطي الرجل جبهته بذراعيه محاولا الاحتماء من هذا الخطر الداهم،
ولكن دون جدوى، لأن الفأر يواصل قرضه دون هوادة. إن استسلام الرجل لقدره يثبت عجزه
عن مواجهة الفأر الذي يرمز في الآداب العالمية للخراب والدمار والاحتقار.
ونجد هذا القلق في صورة أخرى من خلال راوية قصة
"الذئبة" التي تحدثنا عن امرأة تراها حيثما ذهبت: في البيت وفي قاعة
الأفراح وفي المستشفى وفي المركز التجاري وفي غرفة النوم. ولكن الطريف أن هذه
المرأة تختفي بسرعة من المكان حتى إن الراوية حين تسأل من معها عن تلك المرأة ينفي
رؤيته إياها. ولكن الراوية تكتشف في إحدى الجولات أن تلك المرأة تشبهها: "البارحة
أنا وزوجي وبنتي وابني، كنا نتسوق في المركز التجاري. لمحتها تدفع أمامها عربة
التسوق، فأخذت أدقق في تفاصيل جسدها. إنها أنا... ثوبها، عباءتها، وغطاء الوجه
الشفاف"[20]. إن اللغز ليزداد
غموضا، ولكننا ندرك أن تلك القرينة ليست شخصا منفصلا عن الراوية، وإنما هي ضرب من
التوهم الذي يستبد بها فيشطرها شطرين ويصيبها بداء الفصام.
وتأتي الخاتمة لتزيد اللغز إيغالا في الغموض:
"وقفت أمام مرآة خزنة الملابس أبدل ثوبي، كانت تقف بجواري ضاحكة، حاولت تقليد
ضحكتها فنبتت لي أنياب ذئبة. غطيت وجهي بكفي وأخذت أبكي"[21].
إن هذه النهاية الفانتاستيكية التي يتماهى فيها الإنسان والحيوان لا تفهم إلا إذا
أضفينا على القصة بعدا رمزيا. فهذه الزوجة تعيش في ما يبدو حالة من الخوف والتوجس منشؤها
شعورها بأنها محاصرة ومهددة، وهي إلى ذلك تعاني من وحدة لا تجد لها حلا حتى عند
أقرب أقربائها. ومن ثم فإن وهم الانشطار الذي تكون عندها قادها إلى أن تتصور أنها
أصبحت صدى لظلها. أما تحولها ذئبة فربما دل على أنها بدأت تدرك أن تصرفاتها
المسالمة لن تجديها نفعا. وإذا أرادت أن تكون كما يريدها محيطها أن تكون فما عليها
إلا أن تغدو عنيفة وعدائية. وما بكاؤها في نهاية القصة حين نبتت لها أنياب ذئبة إلا
علامة دالة على ألمها لوداع براءتها واضطرار الكائن الاجتماعي فيها إلى أن ينهض
على أنقاض الكائن الإنساني.
وأما الملمح الآخر من ملامح الأزمة التي تجسدها هذه
القصص فاجتماعي يتراءى لنا من خلال تدهور القيم، وعزوف الشخصيات عن البحث عن القيم الأصيلة. ففي قصة "الشري" صور
من مغامرات كهل مع عدد من النساء، من بينها واحدة في غرفة مقهى[22].
وفي قصة "رغبة" بنت حصلت على وظيفة في قرية بعيدة عن بيتها تشارك بنتا
أخرى في السكن، وعند عودتهما من التسوق تدعو إحداهما سائق سيارة الأجرة إلى أن
يتناول معهما العشاء[23].
وفي قصة "الغانية" صور من حياة بنت افتض بكارتها صاحب البيت الذي يعمل
فيه أبوها ولم يكن لها من العمر إلا اثنا عشر عاما. وبعد زواجها تنشئ سلسلة من
العلاقات غير المشروعة وتؤسس فرقة نسائية وتنخرط في الفساد[24].
وفي قصة "الشيشة" ينشئ الراوي علاقة غير شرعية مع ابنة صاحب العمارة:
"مع القطرة الأخيرة من كأس المشروب كنت أعانق الفتاة. ولم أتوقف حتى اقتحمت
أعماقها. لملمت ملابسها واختفت"[25].
وفي قصة "انثيال بوح" يحدثنا الراوي بشيء غير قليل من المتعة والتفصيل عن
علاقته الجنسية ببنت السنوات العشر: "طفلة في العاشرة على حظ عظيم من الجمال،
شيء شدني إليها وأنا أتفحص جسدها الممتلئ، تناثر شعرها الأصفر القصير على جبينها،
صدرها غض وذراعاها العاريان يلمعان بياضا"[26].
هذا إضافة إلى صور أخرى من السلوك المنحرف من قبيل الشذوذ الرجالي والنسائي،
وتعاطي المسكرات والمخدرات، وارتكاب جرائم القتل والزنا.
وتندرج في هذا الملمح الاجتماعي ظاهرة تتردد في عدد من
نصوص هذه المجموعة هي نسبة قسط كبير من هذا التدهور المستشري في جسد المجتمع إلى
الوافدين. ففي قصة "أبو سعيد" يتزوج الراوي شيماء الفلسطينية فلا تلبث أن
تطلقه وتتزوج فلسطينيا مثلها، ثم تكون له مع الخادمة الحبشية علاقة جنسية[27].
وفي قصة "الشيشة" يستضيف الراوي معلما مصريا ويضاجع أخته حين كان المعلم
في بيت الحمام[28]. و"الغانية"
أمها أمة سوداء من عبيد القصر، وأبو صديق
أخيها يمني يتعاطى المخدرات، مارست الجنس أول عهدها مع السائق الهندي، ثم انحدرت
في سلم الرذيلة[29]. ولا يخفي الراوي
موقفه من الوافدين الذين شغلوا حي قروا، يقول: "أوراق الأشجار الجافة تتكوم
فوق أرصفة منازل حي قروا الفارعة المهجورة بعد أن تناثر باقي أصحابها، وسكن
ملاحقها أسر وافدة لا يوقف ممارساتها أحد"[30].
إن هذا الإلحاح على جوانب الأزمة الأخلاقية التي يمر
بها المجتمع يأتي ليكمل المشهد المختل في مستوى الفرد. على أن قوى الخير هاهنا
أضعف من أن تواجه هذا الانهيار الشامل. لذلك تشكل نصوص هذه المجموعة صيحة فزع هي
إلى اليأس والاستسلام أقرب منها إلى المقاومة والرغبة في التغيير، وكأن لسان حال
الراوي ومن ورائه المؤلف يقول إن السيل بلغ الزبى وإنه لم يعد ثمة مجال للحلم.
ولعل أوج هذه الأزمة يتمثل في الملمح الميتافيزيقي،
حيث يسود الغموض والعدمية، فينطلق صوت لا نحقق صاحبه في مستهل قصة "فقر"
يقول: "أين تكمن الحقيقة، وقد سرى العفن في جذوع الأشجار فيبس ورقها وتقصفت
أغصانها؟"[31]. إن الداء استحكم في
الأصل ولم يعد هناك من أمل في الشفاء. وهذا العفن يتنزل في باطن الكائن وفي محيطه،
ويتحكم في الحاضر وفي المستقبل، ولم يبق إلا المظهر بعد أن نخر الدود شغاف الروح
وقضى على البراءة والصفاء.
ولعلنا بوصولنا إلى هذه النقطة يمكن أن نقف على خيط
مهم من خيوط إنشائية القصة القصيرة عند محمد المنصور الشقحاء. فهذه النصوص التي
تضمها مجموعة "المحطة الأخيرة" تتوخى طريقة في التمثيل تتجلى في بنية التماثل
التي يعتبرها جاكبسون أساس الاستعارة. وآية ذلك أنه ينشئ لنا عوالم مشاكلة للعالم
الذي نعيش فيه، فينزل الأحداث والشخصيات في فضاءات زمنية ومكانية مجانسة لتلك التي
نعرف، ولكنها غير مطابقة لها. وهو في هذه القصص لا يقدم لنا شخصيات فذة، وإنما
يعطينا كائنات نموذجية هي بمثابة الكوى التي نطل منها على العالم. وهو يعمد في نصوصه
القصيرة جدا إلى التلميح فيكثف المداليل ويختزل الدوال ويجعلنا رغم واقعية
الإحداثيات نسعى إلى إضفاء معنى رمزي على الكلمات فتخرجها من مجال المطابقة إلى
مجال المجاورة، أي من حيز التشبيه إلى حيزالاستعارة.
إن قراءة أقاصيص الشقحاء على هذا النحو تمكننا من أن
نرى فيها خيطا رابطا يجعلها رغم استقلال كل منها برأسه بمثابة الوحدات المتضامة
المتواشجة التي توحي بأننا من هذه النصوص إزاء تصريفات شتى لصورة واحدة. ولعل
العثور على عناصر مشتركة بينها يؤكد هذا الانطباع. من ذلك مثلا أن راوي قصة
"السجن" يقول: "تخيلت ابني أسامة"[32]،
ويقول راوي قصة "العطر": "في السنة الثانية جاء أسامة ومعه كان
الطلاق"[33]. ونجد حديثا عن امتلاك
الراوي مكتب عقار في أقصوصتي "فريج" و "الشيشة"[34].
ويرد ذكر منتزه الردف في "القنبرة" و "وهم"
و"الردف"[35].
وتستوقفنا صورة الطفلة الشبقة في قصتي "الغانية" و"انثيال
بوح"[36]. هذا إضافة إلى تردد
ذكر أمكنة بعينها كالرياض وجدة والطائف، مما يبيح لنا أن نرى سمة سيرذاتية مقنعة
تتخلل هذه النصوص التي تتلفع بالتخييل.
إن هذه الملاحظة تتعزز بتلك الشذرات المنتثرة هنا
وهناك والتي تصور لنا عددا من شخصيات هذه الأقاصيص وقد استبد بها هاجس الكتابة والإبداع.
فراوي قصة "الغياب" يستهلها بقوله: "لا أدري متى كان مولدي وأين
ولمن أنتمي. تواردت هذه الخواطر وأنا أقف خلف المنبر لإلقاء قصيدة شعر كتبتها
للمسابقة الأدبية"[37].
وراوية قصة "الأستاذ" شاعرة[38] وراوي
قصة "العطر" يتعاطى كتابة المقالات في الصحف[39].
وراوي قصة "العطر" ينشر مقالات إبداعية في إحدى المجلات الأدبية[40].
على أن هذه الإشارات كثيرا ما ترد مصحوبة على سبيل الإيماء أو التصريح بما يدل على
أن الكتابة محنة تفتح على صاحبها أبواب البلاء. ففي أقصوصة "العطر" يقول
الراوي: "ذات مساء تلقيت اتصالا هاتفيا من موظف في جهة حكومية يطلب مقابلتي،
كان سؤال الموظف عن قصدي الذي أخفيه في نص إبداعي نشرته مجلة أدبية في القاهرة،
وعقب هذه الأسئلة تم سجني أشهرا، أغلقت فيها الوكالة، واشترى أحد التجار شركة
الحاسب، وخسرت الضمانات المالية بدعوى الإهمال"[41].
وهو يقدم لنا ما يدل على مفهومه للكتابة التي تجمع بين البوح والنقد: "عدت
للاستراحة أبحث عن السكينة من خلال تكثيف البوح والكتابة، كتاباتي في الصحف تطورت
إلى مناقشة أمور المجتمع وسلبيات الأداء الحكومي"[42].
ولا يبخل علينا المؤلف بمفتاح نراه أساسيا لفتح مغالق نصوصه حين ينطق طائر هزار
بما يرنو إليه، يقول في قصة "ارتعاش الرمل": " قال طائر هزار
لفراشة كتان حطت بجواره صباح يوم في شهر شباط: غطى الغيم شآبيب الشمس، تشرنقت
الحروف وبدأت معالم الطريق تلوح"[43].
فهل أكثر صراحة من هذه الاستعارة التي تغدو معها الكلمة إيذانا باندحار الظلام؟
إن محمد المنصور الشقحاء لا يروي الماضي وإنما يرسم
ملامح المستقبل. وهو إذ يقص إنما يحمل هما إبداعيا ينطوي على هم فكري وهاجس حضاري. إنه بهذه
اللوحات يستعير مفردات العالم ليضفيها على ذاته المتمردة ويستمد من صور الغير
أقنعة لنفسه المتطلعة إلى النور. فهو في نهاية الأمر يكتب ذاته بأقنعة الغير.
أ. د.
محمد القاضي
[3] شكري محمد
عياد: القصة القصيرة في مصر: دراسة في تأصيل فن أدبي، معهد البحوث
والدراسات العربية، 1967-1968، ص ص38-39.
[4] B. Eikhenbaum, Sur
la théorie de la prose, in Théorie de la littérature, textes des
formalistes russes, Ed. du Seuil, Paris, 1965, p. 202.
[5] ماري لويز
برات: القصة القصيرة: الطول والقصر، ترجمة محمود عياد، فصول، مج2،
ع4، يوليو- أغسطس- سبتمبر1982، ص55.
[6] استمددنا أهم
مفردات هذا التقديم من كتابنا "إنشائية القصة القصيرة"،
الوكالة المتوسطية للصحافة، تونس، 2005.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق