الركض عبر أزقة الزمن
قصة قصيرة
محمد المنصور الشقحاء
** بعد تسويف وتردد كانت موافقتي سبب توقف انهمار دموع والدتي التي أتعبها جسديا ونفسيا إضرابي عن الزواج، فلما سمع الجميع موافقتي بعد أربعة أعوام من عودتي من رحلة دراسية ووظيفة تتفق مع تخصصي تجولت معها في مدن وقرى متفرقة حتى كان استقراري بالرياض.
ونحن نناقش مواصفات الفتاة المطلوبة والتي تقارب عمري الأربعيني جاء التركيز على واحدة من الأسرة تأخر زواجها بسبب إصرارها على إكمال دراستها الجامعية والعمل.
وهنا كان استئجار شقة للسكن وتأثيثها بالفرش والمقاعد وجهاز التلفزيون وأجهزت المطبخ الرئيسة على أن يتم شراء المستلزمات عند الموافقة وحسب مطالب العروس.
في هذه الأثناء كنت اختلي بنفسي في الشقة لملاحقة مباريات كرة القدم في كاس العالم التي تذاع عبر قنوات التلفزيون المشفرة.
ولم ألاحظ أن الشقة المقابلة لشقتي بها طبيب عربي وزوجته وابنته ذات السنوات العشر حتى سمعت صوتاً أنثوياً ذات ظهيرة يستأذن الدخول من الباب الموارب وعمال التمديدات الكهربائية يوصلون أسلاك مكيف الصالة التي أجلس بها.
كانت جارتي تبحث عن هاتف به خاصية الصفر لتتصل بجوال زوجها الذي تأخر ومعه الابنة التي انتهى يومها الدراسي فقدمت لها هاتفي وتواصلت مع زوجها، وقد لفت نظري جسمها الرشيق وشعر رأسها القصير والمقصوص ( كتواليت ) الرجال.
انتهت واستأذنت اتصالاً آخر، وتبادلنا الابتسام إذنا ولما تناولت الهاتف منها كان ساخنا وكفها ساخنة، سرنا نقاوم الاعتذار ونخاتل السؤال عن الحال حتى الباب وانتظرت حتى دفعت باب الشقة ودخلت.
انتهى عمال الكهرباء من انجاز عملهم وجلست أتابع لقطات مكررة لأهداف مباريات الأمس وقد نسيت إن الباب لم يغلقه العمال لأجدها تقف على راسي وبين يديها طبق به قطع حلوى وبسكويت، لمحت ارتباكي فضحكت.
ــ جاء زوجي وابنتي.
ــ الحمد لله.
ــ وهذه الحلوى سبب تأخره.
تناولت الطبق وخرجت قمت بإغلاق الباب وتمددت لأخذ دقائق راحة ولكن قرعاً خفيفاً على الباب نبهني، كانت هي والابنة يستميحاني مشاهدة المباراة التي سوف تبدأ بعد دقائق وفيها يمثل منتخب بلدها فريقاً حمله الجميع الصعود لادوار متقدمة، وقبل سماع موافقتي جلستا.
رن هاتفي يدعوني للحضور فخرجت ولم أهتم بالاثنتين، كانت والدتي التي تعرضت لنكسة صحية تنقل للمستشفى وهناك طال انتظارنا حتى كمل الفحص ونصحنا الأطباء بجلوسها أربعاً وعشرين ساعة للمراقبة فرافقتها أختي الكبرى.
في العاشرة ليلا عدت لشقتي أبحث عن الخلوة وعن متابعة باقي المباريات فوجدت قنينة عصير فواكه وطبقاً آخر به حلوي وقطعة كيك وقنينة ماء صغيرة تبقى نصفها.
في الواحدة وأنا أستعد للمغادرة آخذت أعيد ترتيب المقاعد وحمل الأطباق وآثار يوم كامل من الحركة، ولما فتحت باب الشقة وجدتها تقف في باب شقتها ترتدي ثوب نوم ناعم قصير يكشف كتفيها وجزء من صدرها، لم تتحرك فاقتربت منها حاملا الطبق الذي تركته، تناولته مبتسمة ودعتني للدخول.
الشقة معتمة وضوء أحمر خافت ينساب في كل مكان، وفي مواجهة الممر باب مفتوح وسرير نوم خال تعامد نظري مع نظرها على الباب المفتوح، كانت تحقق برنامجها، عرفت أن الابنة راقدة في غرفتها وأن الزوج بالمستشفى وأنها الآن هي من يريد قضاء دقائق متعة تبحث عنها بين وقت وآخر.
استمتعت بمفاتنها وحراكها، لم أجد صعوبة في الدخول في كل مكان من جسدها ولما توقفنا نستعيد أنفاسنا.
ــ تصدق لم أبحث عن الكثير.
ــ وأنا كنت قلقا.
ــ لم القلق ؟
ــ شيء لا أتحكم به.
كانت امرأة بلا قضية إنما عندها هدف محدد، تريد فقط أن تكون أقل خوفا، ووجدتها كتلة من المفارقات رخيمة أنيسة بمتعة البراءة الأولى؛ لنتنبه على صوت جرس الساعة التي لا ادري أين رافقتني إلى الباب الذي لم تغلقه حتى قفل المصعد بابه.
انقطع حضوري للشقة بسبب تدهور صحة والدتي، وتناوبنا في البقاء في المستشفى، وفي هذه الأثناء التقيت بالفتاة التي اختارتها والدتي عند زيارة والدتها لوالدتي ومرافقتها، وفي الممر اقتربت منها شاكرا زيارتها وأمام نافذة الممر المطلة على فناء يضم مواقف السيارات ومقصف وجبات سريعة ومشروبات يبيع باقات الورد وعلب الحلوى لزوار المرضى توقفنا فرفعت الغطاء عن وجهها لتسمح لي بمشاهدته عن قرب، تميل للسمرة نحيلة الجسد طويلة القامة ترتدي فستاناً حديثاً ضيقاً وبعفوية أهملت طرفي العباءة لتنفتح حتى أكون صورتي عن شكلها.
في اليوم السادس صممت على الذهاب إلى الشقة، وأنا أفتح الباب فكرت في طرق باب الشقة المقابلة ولم أتشجع، كانت الساعة التاسعة ليلا والظلام والمطر والبرد يحيط بكل شيء، فأشعلت الأضواء وتركت باب الشقة موارباً منتظرا حراك المكان وإذا بصوت رجل يستأذن كانت جارتي وقد تهدلت العباءة المزخرفة على الكتف وزوجها وابنتها بعد عشاء في أحد المطاعم تبادلنا التحية أعتذر الجميع عن قبول دعوتي.
ولم يمر وقت طويل وإذا بالباب يقرع كانت الطفلة تحمل قنينة عصير فواكه وطبق حلوى وبسكويت تناولته منها ومررت كفي على رأسها وتابعتها بنظري وهي تدخل شقتها.
نمت في مكاني لأتنبه على الهاتف كانت خطيبتي تدعوني لمقابلتها، جاء اللقاء في السادسة عصرا كانت تنتظرني في مكان عام أوصلها إليه سائق أسرتها وعلامة التعريف حقيبة يد خضراء وزنبيل عليه علامة محل تجاري معروف حتى لا يلفت بحثنا رجال الحسبة ومرافقيهم من أفراد الشرطة؛ وفي عربتي وبعد أن غادرنا موقف السيارات تقابلت كفانا، وفي مقهى بمركز تجاري توقفنا.
ــ دعوتي للتعارف أكثر.
ــ هذا مشجع !
ــ وعلينا عدم التسرع في القرار.
ــ اجل.
وتشعب الحديث فالحاضر يدغم ذاتين في واحدة، لم يكن هناك خيار؛ ليرن هاتفها، وهنا طلبت مني إيصالها إلى المكان الذي أخذتها منه وان اقترحت عليها إيصالها لمنزلها لم توافق فوالدتها وإحدى قريباتها في انتظارها بالمكان الذي أخذتها منه.
انشغالنا بمرض والدتي والبحث في مناسبة الفتاة التي اختارتها أمي وأسرتها زرع القلق والجدال بين إخواني وأخواتي وقد تنافس الجميع في إيجاد البديل المناسب.
بعد اتفاق مع شركة دواليب المطابخ جاء موعد التركيب الذي تأخر فسبقتهم إلى الشقة انتظر وصول عمال النقل والتركيب، وأثناء حركتهم أطلت جارتي محيية ووقفت أتحدث معها، كانت العاشرة صباحا، تتناول قهوة الصباح دعتني للدخول والهاتف يرن رفعت السماعة كان الآخر يحدثها وهي تحدق بي معلنة عن ترحيبها بوجودي، ولما أغلقت الهاتف طوقتني بذراعيها وجلسنا ملتصقين؛ امتصت الحياة مني وزرعت في داخلي تألق اله الحب، منزاحة بكل وجدها وشبقها إلى مرحلة خلق صور جديدة من العشق في لحظة اندغام مع شقشقة عصافير الصباح وصوت حركة المارة والسيارات في الشارع.
انتهى العمال من مهمتهم وكان علي تسليمهم باقي أجرتهم، ولما بقيت وحيدا في الشقة جاءت تحمل طبق الحلوى والبسكويت وقنينتي عصير الفواكه، جاء حديثنا عادي فقد تجاوزنا الانبهار.
وفي اللقاء الثاني بخطيبتي لم أكتف بتعانق كفينا فقد أطبقت على شفتيها في قبلة طويلة لم تقاوم إنما طوقتني بذراعها واستسلمت حتى شعرت أن أنفاسنا تقطعت فتركتها وقد كنا داخل سيارتي التي تقف في ضل شجرة وارفة بعيدة عن الانظار.
ــ هناك أمر ؟
ــ خير .
ــ اعرف ان الوالدة مريضة وإنها تبحث لك عن زوجة من اجل الأولاد.
ــ كل شيء بأمر الله.
ــ أنا معك.
وعرفت أنها في زمن سابق أجرت الفحص الطبي للزواج بعد أن تقدم لها احدهم وجاء الفحص أن صحتها جيده وان كانت تعاني من بعض العيوب الخلقية منذ الطفولة، أهمها ضيق المهبل الشديد، ولكن من ناحية الحمل عقيم بسبب خلل في المبايض والتصاق داخل الرحم وأشياء أخرى اكتشفتها بعد تخلي من خطبها عن إكمال مشروع الزواج، كانت مصارحتها ايجابية وتمنحني فرصة التفكير.
ــ هل أمك أخبرت والدتي ؟
ــ لم تفكر في ذلك.
ــ ولماذا ؟
ــ لا أدري.
اتفقنا على إبقاء الأمر سرا حتى تغادر أمي المستشفى وأوصلتها إلى منزلها وداعبتها برغبتي في الدخول واقتحام غرفتها .
خرجت والدتي من المستشفى منهكة وبقينا حولها نرحب ونستقبل الجيران والأقارب مما أنساني الهروب إلى شقتي، كما جاء تكليفي بحضور برنامج تدريب لمدة خمسة عشر يوما خارج البلاد، فرصة للنقاهة والتفكير في مصارحة أمي بشان الفتاة التي اختارتها زوجة لي0
ولما عدت تريثت وأخذت طريقي لشقتي وهنا كانت المفاجأة وجود ساكن جديد في الشقة المقابلة أسرعت إلى مكتب العمارة فأفادني بان الطبيب في إجازة من العمل ويسكن في الشقة الساكن الأساسي، أخته الأستاذة الجامعية وزوجها المرافق الذي يعمل مندوب مبيعات في شركة تجارية للتوريد والعلاقات العامة وعرفت ان الطبيب يقيم في سكن المستشفى وأن زوجته تأتي وقت الإجازات وهي تعمل محررة بصحيفة معروفة كمدير تحرير.
لم أتوافق مع هذه الأخبار فأخذت أتجول بسيارتي في الشوارع ثم قادتني إلى مطعم ومتنزه خارج المدينة يلتقي فيه الأصدقاء لقضاء الوقت ولعب الورق.
وأنا في طريقي للشقة تذكرت اسم المستشفى الذي يعمل به زوج جارتي فهو مشهور وبه خدمات طبية فندقية تجاوزت في بعض الحالات التصور الحالم، وأنا أسير على غير هدى بين الممرات كنت أجد ممرضات وعاملات من جنسيات مختلفة رشيقة وبمظهر خلاب وعلى محياهم ابتسامة تدعو إلى الاطمئنان والبحث عن كلمة طيبة.
ــ الدكتور جمال !
ــ نعم.
ــ ابحث عن الدكتور جمال.
ــ اخذ إجازة .
ــ يعني سوف يرجع.
ــ إذا ولدت زوجته.
ــ نعم .
بعد عشر سنوات حمل وإجازة مفتوحة وان علامات الحمل اتضحت وبما أنها في الأربعين وكلما زاد عمر المرأة قلت نسبة حدوث الحمل فلابد من رعاية خاصة إذا أثمرت العلاقة؛ وهنا كان الرحيل الذي معه إبقاء الإجراء في نطاق الحلم، ولجت الشقة وتركت الأضواء تشع ولم اهتم بالتلفزيون الذي يحمل فوق ظهره صحناً وردي اللون صغير الحجم، وبجواره قنينة عصير فواكه فارغة.
في الحادية عشرة ليلا رن هاتفي كانت أختي تخبرني بانتكاس صحة والدتي، وأنهم في طريقهم للمستشفى لم أهتم بإطفاء النور ووجدت جارتي الجديدة ومعها مجموعة من الرجال والنسوة عند المصعد، الجميع راقب خروجي من الشقة.
ــ هل أنت الجار الجديد ؟
ــ وانتم !
ــ نحن هنا منذ عامين.
ــ شهر. . إنما كان في الشقة آخرون ؟
ـ نعم شقيق الدكتورة.
وعرفت إن الدكتورة التي تعمل بكلية جامعية في قسم البنات كانت في إجازة دراسية أثناء الصيف، معه سكن الطبيب وزوجته التي جاءت في إجازة عمل لقضاء بعض الوقت الدكتورة كبيرة في السن وجسمها المكتنز يشع بياضا والأخريات والآخرون يتفاوتون في العمر وتباين الملامح ولون البشرة.
دخلت والدتي غرفة العناية المركزة ثم لفظت أنفاسها وبعد انتهاء العزاء أخبرت أختي الأكبر بفحوصات خطيبتي وقرار الأطباء استحالة حملها.
ــ من ؟
ــ زينب بنت الخالة نوف.
ــ هذه تزوجت.
عرفت أنها حصلت على بعثة للدراسات العليا وتوافق ابتعاث آخر من أقارب والدها فكان زواج تسهيل السفر وإكمال الابتعاث، شعرت بالضياع أني أشبه كالكامش الذي عاد خائبا من رحلة الوصول إلى الخلود ومع غروب الشمس وأمام باب شقتي وقفت مترددا بين الدخول والمغادرة وحولي حركة سكان العمارة وتراكض الأطفال، ولمحتها ملتفة بالعباءة تخرج من المصعد، حدقت فيها وهي ترفع الغطاء عن وجهها تدقق في أرقام الشقق ولما وجدتني أراقبها تبسمت، عندها فتحت باب الشقة وتركته مواربا وجلست في العتمة أحدق في التلفزيون وشع نور انفتاح الباب.
ــ لم أجد أحداً.
ــ نعم ؟
ــ أخي وزوجته.
كانت في زيارة لشقيقها، زوجها غادر قبل أن يتأكد من وصولها، دعوتها للجلوس جاءت كماء السماء؛ تلفتت حولها تقوم ثمن ثقتها الطائشة في حضور مجهول وكأن شخصا يسوقها ليخلصها من شبح في الخارج كان يركض وراءها.
ــ لا يوجد أحد.
ــ وأنت ؟
ــ مشروع لم يكتمل . . لا أدري لماذا أحببت هذه المدينة!
ــ إنها رغم تعددها تزرع السلوان.
ــ وتأتي من الضياع.
شرحت لها وضعي أنفاسها أرواح بشر لا تعرف الرعب الضاج بالعزلة، تركتها لإحضار أكل ومشروبات من مطعم مشويات وفلافل اعتدته، ولما عدت كانت تجلس أمام التلفزيون ثم نهضت ترقص على أغنية انبثقت عبر الشاشة فالرقص يفجر عقدنا الخفية؛ تناولنا لقيمات وتجرعنا بعض القطرات من المشروب شعرت بارتعاشها ونزقها.
ــ سوف يأتي في العاشرة.
ــ من ؟
ــ أبو ميسر.
ــ زوجك ؟
ــ وصغيري ميسر الحياة المتواصلة.
عرفت ان الطفل ذا السنوات الأربع مع أبيه الذي أخذه إلى مركز العاب الأطفال في سوق تجاري يقتني من محلاته احتياج الأسرة من الغذاء، وحتى تزور أخيها؛ تذكرت جارتي وحملها وخطيبتي التي لم تنتظر ردي. صدرها الصغير لفت نظري وبياضها المائل للشقرة ألهب أفكاري وفي التاسعة والنصف استعادت الهدوء ورن هاتفها كان زوجها ينتظرها عند باب العمارة وهي خارجة لمحت ابن شقيقها ذا السنوات الثلاث ينسل من المصعد فهبطت مع الدرج.
أعلنت الإدارة التي أعمل بها عن برنامج تدريب جديد لمدة عام فتقدمت له وتوافق اختياري مع آخرين من إدارتي ومن دوائر حكومية أخرى، ذكور وإناث في مدينة أوربية وأخرى أمريكية، وبما أنني جربت أمريكا سنوات الدراسة الجامعية فكان اختياري للمدينة الأوربية لندن مع معرفتي بصعوبة المعاش اجتماعيا وسياسيا فقد كان تحد جديداً، جاء سكني وفق ترتيبات المعهد المشرف على البرنامج وبعد أكمال التسجيل وإعداد جدول البرنامج قررت إدارة النادي العربي بالجامعة التي تضم الكلية التي ندرس برنامجنا بين جدرانها دمجنا في مناشطه؛ وكان الحضور اللافت خطيبتي التي لم يؤثر على تركيزها وقوفي أمامها، عرفت إنها أكملت عامها الأول وأن زوجها هجرها بعد ستة أشهر وقد انضم إلى مجموعة معارضة لم تتمكن من توحيد صفوفها في الداخل كحركة احتجاج اجتماعية بشأن مطالب الإصلاح والتغيير التي يمكن الحصول عليها بالتفاهم والحوار ؛ فتحولت إلى جماعات انشقاق سياسية تتوزعها الأثينية الطائفية المذهبية والعرقية القبلية؛ تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية في الوطن وفق أجندة بريطانية تتقاطع مع المصالح الامريكية.
ــ ستجعلينني اشمئز من نفسي.
ـ نعم ؟
ــ لن أرغب في وجود أي كان معنا.
ــ لماذا ؟
ــ لجرحي القديم الذي دمك جف عليه.
وتركتها مع مجموعة من الطلاب لمناقشة اختيار أعضاء مجلس إدارة الجمعية التي تشارك في نشاطها العلمي؛ ولحق بي أحد أعضاء البعثة وجلسنا على مقعد في حديقة عامة تقبع بين السكن والجامعة يائس حزين وبمعرفة كاملة كنبوءة حالة لموضعه الروح.
ــ ستتمكن من مضاجعتها في نهاية الأمر.
ــ تلك اللؤلؤة السمراء ؟
ــ نعم .
كنت أعاني من فراغ غامض . . ماذا عساها تريد . ؟ إنني أجد الخلاص في نكران نفسي، فالدم الذي يجري في أعماقي مسموم، الأمر يتطلب عملية خلق كاملة فقد تلوثت عيني ونفث الصديد سمه في قلبي، أغرق في وهم لم يتحدد إطاره ولم اسع إلى تجاوزه. عالمي الداخلي لم يسع لبعث تجربتي الذاتية والتعبير عنها بلغة واضحة.
وفي الصباح وأنا أستعد لمغادرة غرفتي للجامعة وجدت ورقة صغيرة تحت الباب ( هذه الليلة سوف أحضر إلى غرفتك في الحادية عشرة والنصف . . خطيبتك ) ذلك الشعور الملتبس الذي استقر في داخلي جميع أفراحه صارت الآن تخفي طعما غير مستساغ، فوجودها بعث في لذة لاذعة.
ــ أتعرفين ماذا فعلت اليوم ؟
ــ ماذا فعلت !
ــ لما أنهيت كلمات رسالتك . . فكرت بالموت
ــ وبعد ؟
ــ تذكرت حياتي المحمومة والمعقدة.
وتوقفنا عن الحديث كنا نركض نحو اللحظة التي استعصت وذلك الجوع الممتد لكل شيء خلفنا؛ أشكل معها صيغة أحلامي كما الآخرين، وكل ما أتذكره أن حلمي كان يسير معي في الشفق، وفي لحظات انتشار ظلي ببطء على الجدران وأنا أركض بحثا عن شيء أسطوري.
دفنت وجهي في صدرها أستمع لنبضات قلبها وأستنشق الرائحة الطيبة؛ ناصت للحديث المرسل بالحكمة والمغفرة أستجدي البقايا المشتعلة من طموحات عالمها الدوار وقد استنفذت السنين ذاكرتي، فلها طريقة سرية تكفي لمعرفة أن دائرتها الوسيعة المطوقة تضم الكل وقد تبلغ الكل.
وعند مدخل مكتبة الجامعة انفصلنا، ودع أحدنا الآخر بكلمات مقتضبة؛ لأجد مرافقي في إعداد بحث الموضوع الذي نشترك فيه مع باحثتين من جنوب إفريقيا ونيوزيلندا يناقش ما تم الانتهاء منه لتكون المراجعة بوجودي.
ــ رائحتك عبقة.
ــ . . . .
ــ لقد ضاجعتها أخيراً أنها رائحة الأرض.
ــ . . . .
ــ لقد قتلت الأوراق.
ــ أنا رأيتها تسقط.
كان يسترق اللحظات لينفس عن اكتشافه باللغة العربية أمام صمت مرافقتينا وانشغالهما بتدوين الملاحظات وصياغة ورقة العمل وتوزيع المحاور عند النقاش واحتفلنا أربعتنا في نهاية الأسبوع الأخير، بالتقدير المتقدم في مطعم الجامعة ثم في غرفة الإفريقية التي قدمت جسدها قربانا للمناسبة؛ النيوزلندية الساخنة مثيلية وتميل إلى الذكورة مبررة حيويتها وزهوها، وان تمكنت من اكتساح حصونها والركض في ساحاتها كما حصان بري انفلت لجامه عنوة من يد مروضه، بعدما لعب المشروب برأسينا وقد علا شخير مرافقي وكذلك الإفريقية التي سكن حراكها، ولما عدنا لرشدنا كان الصداع يحطم رأسي والشقراء ترمقني بتوجس ثم أجهشت بالبكاء.
ــ هل انتهينا
ــ . . . .
ــ هو الوداع لزمن مليء باللاشيء.
نوبة من نوبات الضعف التي تنتاب القلب، واصلت البكاء متكئة إلى كتفي لا يمكن تصوري ونظرات زميلي القلقة والإفريقية المبتسمة فأحسست بنفسي خسيسا، ومعها أصبحت عيناها قاسيتين، واستعادة وعيها تحول البكاء إلى حشرجة، احتضنها مرافقي وغادرت الغرفة مع الأفريقية.
بينما أراجع بيانات أوراق إجراء في المكتب رن الهاتف كانت خطيبتي السابقة التي عادت، تدعوني لموعد عشاء مذكرة بما يقوم به المحبون في الغرب عند الموعد الأول. &&