سيمياء الأسئلة وسردنة الشخصيات في قصص
محمد المنصور الشقحاء
كمال عبد
الرحمن
ناقد
من العراق
لاشك ان المنهجية السيميائية في رؤيتها الفلسفية((تنطلق
من الشكل،في فهم الانسان،ولاتطمح الى أكثر من وصف الوجود))(1) على النحو
الذي يكون بوسعها الكشف عن حيوية هذا الفهم
وحراكه وشغله داخل كيان الشكل،ومن ثم
وصف فعاليته العلامية التي تصور حساسية ذلك وتنتج معناه من خلال الكيان
الوجودي للأنسان،ومن خلال فلسفة التوجّه نحو صوغ النظام الدلالي في الاشياء والرؤى
المكونة لهذا الوجود داخل اعماق الدوال ونظم تشكيلاتها(2)، أما لدى بيرس فتكون
العلامة وحدة منتظمة داخل صيرورة متجانسة تدعى(semiosis) وفق الترسيمة الآتية:(3)
وقد اخضع بيرس
العلامة للتصنيف في هذا على اجزاء
العلامة الثلاثة(ماثول،موضوع،مؤول) وهذه خضعت كذلك لتقسيمات ثلاثية،وقد أسلمته
نزعته الرياضية الى تقسيمات اخرى للعلامة مما جعلها تصل الى ستة وستين نوعا من
العلامات(4).
تشتغل أغلب قصص الشقحاء على حاسة
انسانية تكاد تشيئن المسرود فتحوله من نبض انساني
راق رقيق وشفيف الى جمرة غضب لا عقل يحكمها ولاحاسة تسيطر عليها سوى صوت البرم
والشعوربالثورة على (التابوات) والغضب والتشتت والضياع،وربما وصل الأمر الى الموت
، حيث تتحرك بعض شخوص قصصه جيئة وذهابا
على ارضية نفسية غير مستقرة،تواكبها ردود أفعال
مضطربة أو غير منطقية أحيانا كما في قصة( خروف العيد) مثلا(4):
(( أوقف
زوجي العربة في منحنى بجوار سوق بيع
الأغنام القابع بين تلاع الردف ونزل
ليشتري خروف العيد..))
،
تبدأ القصة القصيرة جدا بمشهد تقليدي ،لامرأة تتأمل حظائر الاغنام بنظرة حيادية لاتربطها بأرض أو انسان ،شخصية
متزنة،تتحول بين لحظة واخرى الى نزوة تتأنسن بحلم طفولي بلا مناسبة و من هنا تتشعرن الاسئلة التي تبثها
سلسلة من ردود الافعال المُشَيْئَنة:
((* لمحت رجلا يتبول
* شعرت برغبة في تقليده
*فتى مكشوف الرأس
يقف أمامي
*لملمت نفسي وانا اضحك دخلت العربة
*جذبته من كفه..زرعت قبلة طويلة على شفتيه الطريتين))
القاص محمد المنصور الشقحاء قاص خاص..وتكمن خصوصيته في
قدرته على استخراج شخوصه القصصية من اماكن نادرة وعجيبة في ازمنة وفضاءات بعضها
يصعب ايجاده حتى في الخيال،لكن الشقحاء يرتدي
طاقية الخفاء الابداعية ويتجول في
استراتيجية( الزمكان) ليستخرج من عالم الهامش شخصيات قد لايلتفت اليها احد اويشعر
بوجودها انسان.. لكنّ قاصنا المبدع يشعر
بها ويعيشها ويعايشها لحظة بلحظة ولايرسم نهاياتها كما يشاء بل كما تشاء الاقدار
كما في قصة(البديل)(5):
(( أخذ يحدق في المارة يتأملهم بإصرار
متناه،بينما اصابع يده اليسرى تقوم بنتف شعيرات ذقنه التي لم يحلقها منذ عشرة أيام..))وكما
يتبلور المشهد الرتيب عن فوران مفاجىء في تصرف الشخصية في تصرف المرأة في قصة خروف
العيد،تنتقل الشخصية الهامشية(الرجل الذي ينتف لحيته) في هذه القصة الى واجهة النص
في رد فعل جنوني غير مبرر،عندما يقفز من الرصيف الى منتصف الشارع،فتسحقه سيارة شحن
،لكنه لايموت:
((يتقدم أحدهم لمساعدته على النهوض من
مكانه،لكنه يرفض اليد الممدودة ويغادر المكان في صمت وخيلاء))
ان الحقيقة التي أدركها سوسير ان
الكلمة ليست معادلا لشيء معين في العالم الخارجي،وبذلك اصبح تصوره يمثل ابتعادا تدريجيا عن ((الشفافية الاولى للغة))(6)،وقطيعة مع تقاليد ثابتة
وانفتاحا على فهم جديد يرى في اللغة نظاما
اجتماعيا ونظاما من العلاقات(( التي تعبر عن الافكار ،ويمكن تشبيه هذا
النظام بنظام الكتابة أو الألفباء المستخدمة عند فاقدي السمع والنطق ،أو الطقوس
الرمزية او الصيغ المهذبة،أو العلامات
العسكرية أو غيرها من الانظمة ولكنه اهمها
جميعا))(7).
وبما انها ـ اللغة ـ اضحت لديه
نظاما من العلاقات فانه يرفض ان تصبح
عبارة عن عملية لتسمية الاشياء ليس الاّ(8)
ومبررات الاعتراض تعود الى ان هذا الرأي((يزعم ان الافكار معدة مسبقا
وموجودة قبل الكلمات، كما انه
لايخبرنا هل الاسم في طبيعته صوتي
أم سايكلوجي.. ثم انه يجعلنا نعتقد ان ربط
التسمية بالشيء هوعملية بسيطة وهذا الاعتقاد بعيد عن الصحة))(9)
لقد ميز سوسير بين صورة الكلمة ومفهومها
لا بين ألأسم والمسمّى وميز داخل العلامة
بين مستويين النفسي والمادي،النفسي هو حصول الصورة السمعية، والمفهوم المادي هو وجود الصوت (الشكل الخارجي(10)،ويمكن توضيح
ذلك على النحو الآتي:(11)
ان علامة (الشخصية الإشكالية: المضطربة/الثائرة/ المنتفضة..الخ) هي سمة
متبادلة في قصص الشقحاءوهذه القصص تتشاكل بين قطبين متنافرين لاتوجد ثمة فرصة
للتصالح او تقارب وجهات النظر بينهما ،وذلك بسبب التركيب السايكلوجي والاخلاقي
لعناصر القطبين،فالقطب الاول يتألف من ( العقل/ الاتزان/الحكمة)و الثاني( الجنون /
الرفض/ الثورة)وهكذا تتعالق الشخصيات دون الحصول على فرصة تلاقح فكري فيما بينها.
ان غضب القطب الثاني لم يكن في الغالب علنيا وواضحا للعيان ،ولكنه كان غضبا
دفينا شيطانيا احيانا يحمل بين طياته شررا ونارا تكفيان لتدميربناية كاملة:
((انفجار:
في العاشرة ليلاً والمركز التجاري يعج بالمرتادين،دخل
يحمل علبة مياه غازية وجلس على احد المقاعد.
تبسم لطفل في الرابعة وقدم له علبة المياه،تابع الطفل
حتى عاد لمجلسه بين نسوة حولهن أكياس المشتريات .
غادر مكانه وركب سيارة تنتظره أمام البوابة رقم واحد بعد
تجاوز اشارة المرور المحاذية للسوق دوى انفجار))(12):
يشتغل القاص محمد منصورعلى واحدة
من اهم تقانات الرمز الايحائي في قصته
الفذة (الرقية)(13) ،يأخذنا بعيدا عن الاجواء الضيقة التي قد نتصورها عن
القصص التقليدية التي تتشكلن من هموم العوائل المملة ورتابة
اجوائها ..قصة (الرقية) نص عجيب عن حكاية فريدة بطلتها (صورة من ورق) لا اكثر ولا
اقل ،رجل من لحم ودم ،وامرأة من ورق ، تبدأ بينهما قصة حب من خلال صورة،وتفشل العلاقة
من خلال صورة ،ويموت الرجل (مقتولا) من اجل صورة:
((انفجر الموقف ،لم يعد لديه بصيص أمل في العثور على الصورة التي كان كل صباح يقدم
لها التحية وفي المساء يقبلها وهو يغادر مكتبه..))
ويؤدلج الناص تأريخه الشخصي بالقيمة المعنوية للصورة، التي تتحول تدريجيا
الى كائن حي ينبض بالحيوية كما يقول كمال
ابو ديب في تعريفه للشيئنة(14) رجل يتماهى مع صورة،عائلة عجيبة تتماسك قليلا
ولاتلبث ان تفض الشراكة الانسانية، بفاجعة ميتافيزيقية ،فليست الامور بهذه البساطة
التي قد يظنها البعض،السرد الذكي لايتوقف هنا أو عند هذا الحد التقليدي لنهاية تمر
بسلام لقصة كان مقدرا لها ان تنتهي بكثير من الدماء والقتل تحت ضغط فوران الدم
الذي كان يضرب القتلة المجهولين:
((ولم يحس بأن أحدهم خرج من الخيمة،تأمله
قليلاً،ثم صوّب نحو رأسه مسدسا يحمله
واطلق عيارا ناريا واحدا،التفت على اثره عنوة وقد انبجس الدم من صدغه،كانت الصورة
الى جواره بكل عنفوانها،ثم انكب على وجهه))،
القاص محمد الشقحاء تحدث في اغلب قصصه عن صراع قيم،عن تحولات خطرة تضربنا
في هذا الزمن الاعمى،حيث يرتفع سافلها وسفيهها ،ويشقى ويتعب ويقتل الاصيل والفارس في شخصيات تتطابق في هذه النصوص مع شخصيات محمد
عزام ،حيث يقسّمها عزام على ثلاثة انواع هي:(15)
1.البطل الايجابي: الذي يعمل من اجل
تغيير مجتمعه نحو الافضل(16) وهذا ما ينطبق على قصة(الحلم)(17):
((شعرت بالارتباك وأنا أقدم له بطاقة العضوية
في الجمعية الأدبية لحرصه على هذه العضوية.حصل على البطاقة قبل الرجوع الى مجلس
الادارة كما هو المعتاد،مؤهله في ذلك علاقاته الشخصية وتجربته الابداعية))
2.البطل السلبي : الذي يعمل من أجل
تأييد السائد،وهذه الشخصية قد تقترب من شخصية (الجار) في قصة(جيرة)(18) الذي يتسلط
على رقاب الاخرين ويسبب الاذى والازعاج الدائم لاصحابه واصدقائه:
((عرفته ونحن في عامنا الثاني،يأخذ أشيائي
ويعترض طريقي..))
وتتشكل حال نفسية معقدة لدى(السارد: حيث تمثل الأنا الساردةـ بوصفها فاعلا سرديا نائبا عن الناص في ميدان العملية القصصية ـــ المركز
البؤري الأساس والجوهري ،الذي يجب فحصه ومعاينته
وتأويله حين يتعلق الأمر بأي اجراء قرائي يغامر باقتحام عالم القصة ، والنص ،أي نص من دون (أنا) ليس الا كما يقول رولان بارت)(فضاء متعدد الابعاد ،تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض، من
غير ان يكون فيها ما هو أكثر أصالة من غيره أصالة: النسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة)) (19).
لذلك تلتصق حاسة
الخوف بوجدان الراوي/ السارد،حيث تشتد هواجس القلق وتضعف شخصية السارد امام(البطل
السلبي) حتى بعد اربعين عاما:
((وبعد أربعين عاما وجدته أمامي تبسم وهو يحدق في سبحة بين
أصابعي اقتنيتها منذ أيام،بهدوء سلمتها له وخرجت من المكان.))
3. البطل الاشكالي : الذي يؤمن بقيم
ايجابية في عالم منحط (20) وهذه تقترب كثيرا من شخصية (حامد) في قصة(الإنحدار)(21):
((طريق الانحدار عميق أطول من كل المعادلات
الحقيقية.يخيم الهدوء عليه وكل الاشياء التي أتجاوزها ثابتة.شخوص آخرون توقف بهم
السير في أماكن متباعدة،حتى الان المؤشرات أفضل..انه الوطن،أخذت اكتب الكلمة
باشكال متعددة واقلام متفرقة واحبار مختلفة،ثم أخذت أرسم حروف الكلمة كما يتم
نمطقها واو..طاء..نون..واو ..طاء..نون،ومع كل حرف أجتاز مسافة اكبر ويتكوّن في
داخلي طاقة اكبر))
وختاما فان قصص القاص السعودي محمد
المنصور الشقحاء اخذتنا قبل كل شيء الى عوالم من السيمياء ،يتشاكل فيها ثنائيا(التنافر والتجاذب= الدال
والمدلول)،فكثيرا ما طرح القاص ( مفردة:دالة) كانت تشكل مدلولا آخر في النص من
جرأة نادرة وسحرالسرد وطرح اسئلة تجاهلها اغلب كتاب القصة القصيرة بما تطرح من قيم
واشكالات انسانية ، تلك الاسئلة التي نجح الشقحاءفي الكشف عن ادق تفاصيلها وكان صادقا في
صناعة نصوصه القائمة على اسرار لايجرؤ
غيره على الدخول في عوالمها، وقصصه هذه هي من النصوص الخاصة التي تشتغل اولا على ذكاء الناص
وثقافته الواسعة وادراكه لعبة السرد والسيطرة على مفاتيح القصة والقصةالقصيرة جدا
وامتلاك وعي عال بتقاناتها،مما أهله ان يكون على المحك في امتحان سردي شاق
وشائق،نجح فيه محمد المنصور الشقحاء وسيطرعلى معطيات السرد و تمكن من ادهاش
المتلقي وتأهيل نصوصه القصصية الى اعلى شعرية قراءة ممكنة كما يقول ادونيس!
*******************************************
كمال عبد الرحمن النعيمي
العراق ـ الموصل
ص ب 819
009647701605027(موبايل ــ جوال)
Kamalismaeel6@gmail.com
الهوامش والمصادر
والمراجع
1. السيميائية،المفهوم والافق،شلواي عمار ،ضمن كتاب :السيمياء والنص الادبي
،منشورات جامعة محمد خيضر،بسكرة ،2000،:21
2. سيمياء الموت ،تأويل الرؤيا
الشعرية،محمد صابر عبيد،دار نينوى،دمشق،2010 ـ:17 ـ 18
3. العلامة والرواية ، د. فيصل غازي النعيمي ،دار مجدلاوي،الاردن ،2010،:21
،عن السيميائية والسيمولوجيا،خيرة عون،مجلة العلوم الانسانية ،جامعة
منتوري،قسنطينة،الجزائر ،ع(13)2002،:205
4. النسخة الاولى (ق ق ج )، محمد المنصور الشقحاء، من اصدارات النادي
الادبي الثقافي في الطائف ، السعودية،1433 هـ
ــ 2011م، الطبعة الاولى:50 ـ51
5. الإنحدار، حكايات وقصص قصيرة ،محمد المنصور الشقحاء،دار
الفارابي،بيروت،لبنان،الطبعة الاولى:182
6. المرايا المحدبة( من البنيوية الى التفكيكية)،عبد العزيز حمودة،المجلس
الوطني للثقافة والاداب والفنون
،الكويت،1997،:296
7. 13.علم اللغة العام،فردينان دي سوسير،ت:يوئيل يوسف عزيز،مراجعة مالك يوسف
المطلبي،دار الشؤون الثقافية،بغداد،ط3،1985، :34
8. 14. م.ن:84
9. 15.م.ن:84
10.
عنوان القصيدة في شعر محمود
درويش ـ داسة سيميائية ـ جاسم محمد جاسم
خلف ،رسالة ماجستير ،كلية التربية،جامعة الموصل،2001،:11
11.
عنوان القصيدة ..جاسم محمد
جاسم،:11 ،عن اسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني
ـ دراسة سيميائية، محمد سالم سعدالله،رسالة ماجستير،كلية الاداب ،جامعة
الموصل،1999، :20
12.
النسخة الاولى:31
13.
الانحدار:26
14.
الانسنة والشيئنة،كمال ابو
ديب،مجلة ثقافات،جامعة البحرين،كلية الاداب، العدد(5):73
15.
الانحدار:26
16.
فضاء النص الروائي ـ مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان
ـ محمد عزام ،دار الحوار للنشر ،اللاذقية،ط1، ـ 1996،:86 ـ87
17.
الانحدار:97
18.
النسخة الاولى:26
19.
رولان بارت:(موت المؤلف)ت:عبد السلام بنعبد العالي،مجلة
(المهد)،ع7ـ 1985،:12 ـ13
20.البطل الاشكالي في
الرواية العربية المعاصرة،محمد عزام، الاهالي للطباعة والنشر
والتوزيع،دمشق،1992،:11
21.الانحدار:22