محمد الشقحاء والاتجاه السريالي في السرد
قراءة في مجموعة (المحطة الأخيرة )
ورقة
بحثية مقدمة للملتقى الرابع لنادي القصيم الأدبي
في
الفترة من 5/11 إلى 8/11/1429هـ ( القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا في المملكة
العربية السعودية )
بقلم : صالح بن إبراهيم الحسن
أعتقد
أن أي أديب لا يكف عن التجريب في الكتابة ينتقل من أسلوب إلى آخر ،ومن منهج أدبي
إلى تيار عام .. إلى نزوع داخلي لديه يجعله يفاضل بين هذا النهج أو ذاك . إلا أن
هذه السمة العامة للأدباء ، لا تعني أنهم يبتعدون عن نهج أحبوه ، أو مدرسة ألفوا الكتابة
بأسلوبها ، بل تراهم يعودون إلى نهجهم الذي اعتادوه بين الفينة والأخرى. ولا أعتقد
أن القاص والأديب محمد الشقحاء إلا من هؤلاء الذين يحاولون استجلاء مكنونات أساليب
كتابية أخرى، لكنه ما يلبث إلا أن يعود إلى نهج لا شك في أنه اعتاده ، ووجد فيه ما
يحقق رؤاه وأسلوبه في التعبير عن آرائه .
الشقحاء والسريالية:
هذا
النهج الذي أحبه الكاتب -فيما أرى- هو أسلوب المدرسة السريالية في الأدب. فمن خلال
المتابعة لما يكتبه الأستاذ الشقحاء منذ أكثر من خمسة عشر عاما يظهر لي بروز هذا
الاتجاه السريالي، الذي لا تكاد تختفي معالمه الواضحة في مجموعة إلا وتظهر في
مجموعة أخرى . بل إني أكاد أزعم أن بعض سمات المدرسة السريالية لا تختفي مطلقا من
كتابته.
وقبل
المضي قدما في استجلاء ملامح هذا الاتجاه في كتابة أديبنا يحسن بنا الإلماح إلى
المدرسة السريالية وبعض سماتها .
بدأ
استعمال لفظة سريالية في عام 1917م ، وشاعت في بيئات الأدباء القائلين بتحرير
الشعر من المنطق والأغراض الجمالية والأخلاقية؛ ليعبر عن حركة فكرية أصيلة تغوص
أحيانا في اللاشعور. ومن خلال الدراسات
التحليلية النفسية التي أنجزها فرويد، وبعد الاطلاع على بعض آثار الأدباء مثل
بودلير استطاع أندره بريتون أن يكتشف ما يتاح للفن من إمكانيات هائلة إذا ما تيسر
له ارتياد عالم اللاشعور بطريقة منهجية . ومنذ عام 1919م أنشأ بريتون مع أرغون
وسوبر مجلة (آداب ) ونشر بها أول نص سريالي بعنوان( المجالات المغناطيسية ) وتكونت
حوله مجموعة من الفنانين، فأصدرت في عام 1924م منشورا حددت فيه مذهب السرياليين قوامه (عفوية نفسية صافية،
يتوخى فيها التعبير شفويا أو كتابة أو أي وسيلة أخرى عن النشاط الذهني الحقيقي،
وإملاء من الذهن في غياب كل مراقبة يمارسها العقل عليه ، وبعيدا عن كل هم جمالي
أوخلقي ( جبور عبدالنور : المعجم الأدبي ،ص139) هذه أبرز سمات هذه المدرسة الفنية.
ومن
خلال ما أشرنا إليه من ملامح هذه المدرسة نحاول تلمس السمات السريالية في كتابات الشقحاء
. ومع أني أستطيع أن أقرر جازما بوجود هذا النهج في أغلب ما كتب الشقحاء ، وخاصة
فيما أنجزه خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة ، إلا أنني سأقتصر على قراءة مجموعة القاص
الأخيرة المعنونة بـ ( المحطة الأخيرة ، حكايات وقصص قصيرة ) الصادرة عن دار
الفارابي عام 2008م .
والشقحاء
في هذا الاتجاه، ومن خلال قراءة الكثير من أعماله يظهر أنه يصدر في نهجه السريالي
من واقع ذاتي غريزي وفطري ، تسوقه إليه ميوله الخاصة ، وإحساسه بواقعه ورؤيته في
التعبير عنها ، فهو مطبوع بأسلوبها ، لا مؤدلجا باتجاهاتها ؛ حتى يقيس أدبه عليها.
تظهر
لنا في هذه المجموعة آثار المدرسة السريالية بشتى جوانبها وملامحها ، فنجدها في
أسلوبه الكتابي دائما ، كما نجدها تظهر وتختفي بملامحها الأخرى من خلال التداخل
بين الواقع واللاواقع ، والتكرار، والصور الصادمة المدهشة ، والمشاهد العجائبية ، كما
نجد القصة السريالية التي تقوم على عالم عجائبي كامل مثير للدهشة .
عجائبية النص، وعجائبية المشهد:
في
هذه المجموعة ، نجد أربع قصص تصنف بكاملها على أنها قصص سريالية؛ نظرا لأنها تصور
عالما عجائبيا صرفا، مما يجعلها مؤهلة لأن تثمل هذا الاتجاه في أصفى صوره ألا وهي قصص
(الذئبة) ، و(المسجد )، و(الفأر)، و(صفاء) .
ففي
قصة (الذئبة) يضع الكاتب أمامنا نصا عجائبيا متكاملا ، حيث نرى امرأة تظهر وتختفي
في لحظات ، بمجرد لمحها من شخصية القصة الرئيسة ، وتتشكل بصورتها ،وتقوم بأعمالها
، إنها هي في كل حالتها، فنجدها في أحد المشاهد كما تقول الشخصية الرئيسة "
لمحتها تدفع أمامها عربة التسوق ، فأخذت أدقق في تفاصيل جسدها ، إنها أنا ...
ثوبها ، عباءتها ، وغطاء الوجه الشفاف ، شعرت برعشة تسري في جسمي
........" ثم تكمل السرد قائلة
" جاء زوجي يدفع عربة التسوق ، كانت تسير بجواره حاملة ابني" لتصل إلى ذروة النص العجائبي في قولها
"وقفت أمام مرآة خزانة الملابس أبدل ثوبي ، كانت تقف بجواري ضاحكة ، حاولت
تقليد ضحكتها، فنبتت لي أنياب ذئبة ، غطيت وجهي بكفي وأخذت أبكي" (الذئبة : ص
72 ).
وفي
قصة (المسجد) نجد أننا أمام نص عجائبي، وإن ظهر على غير ذلك في أوله ، فنحن أمام
شخص يريد الدخول إلى المسجد الذي أفتتح حديثا ، و " عندما حاذى النوافذ سمع
المصلين يقولون (آمين ) مد الخطى ودخل . لحق الإمام راكعا ، أكمل ما فاته من
الصلاة ، تلفت حوله كان المصلي الوحيد" (المسجد: ص 57).
وفي
قصة (الفأر) نجد أن شخصية القصة قام مستيقظا ، وقد سمع حركة حوله "انصرف إلى
أعماقه بينما فأر بدأ يقرض قدمه ، ويلتهم أصابعه " ... ويسترسل السرد
بالقول" جاء صوت قرع على الباب الخارجي مختلطا بصوت دقات الساعة ، تنبه
، تأمل الساعة .... الفأر ما زال يقرضه
تمدد مجددا " (الفأر: ص42) .
وفي
قصة (صفاء ) نجد القصة على رغم قصرها، إذ لا تصل إلى أربعة أسطر تتمثل في بوح
امرأة بالقول" جاء اسمي من الصفاء مع أن لون بشرتي أسود ، في ليلة غفل عنها
الزمان لمحته يجلس وحيدا ويسطع بياضا في فضاء المكان أخذ يتحلل في جسدي، مع شقشقة
الصباح سألتني أختي بفزع عن تغير لون بشرتي" (صفاء:ص 119).
ونلحظ
أن هذه القصص الأربع رغم تفاوتها في الطول ، إلا أنها بنيت بكاملها بناء سرياليا
يعتمد في المقام الأولى على العجائبية في القص . ولا أجد أنها بحاجة إلى إيضاح بيان
مواطن العجائبية فيها.
ولا
يقتصر الاتجاه العجائبي عند الكاتب على هذه القصص الأربع فحسب ، لكننا نراه في
ثنايا بعض القصص، وإن كانت لا تقوم عليه كما جاء في القصص الآنفة الذكر، إذ هي
مشاهد تظهر في ثنايا السرد تؤدي مهمتها الإيحائية فحسب، ومن ثم تنتهي .
ففي
قصة (الغرفة الثالثة) ، نجد الشخصية تقول عن الزوجة " كانت تقاسيم وجهها تشبه
وجه ضيفتي مجللا بالسواد ، ولما عادت تحمل دمية تشبه طفلتنا تغيرت تقاسيم الوجه،
فإذا بها جارتي التي تسكن الدور الثاني، وقد تعرت فتخلقت فراشة تبحث عن كوة نور"(الغرفة
الثالثة: ص 143).
وفي
المقطع التالي مباشرة في القصة نفسها نجد الشخصية القصصية تقول" أطل وجه أمي
وشعر رأسها يتلوى مثل الثعابين، وقد استطالت أنيابها وجحظت عيناها ،وهي تغرز
أنيابها في عنقي تمص دمي وصوتها الهادر يتسبب بتحطم الأشياء، فتتكوم قطعا حول جسدي
الذي شله الخوف، فأتمدد على الأرض مغمى علي، الصمت يحيط بي والظلام يملأ المكان
..."(الغرفة الثالثة: ص 143).
وفي
قصة (العنقاء )التي يشيء عنوانها بالنسق الأسطوري نجد أن السرد يأتي في أحد مقاطعه
"أنا ..سهج تخلقت في بطن أمي بهدوء وسكينة ، لم يغب يوما صوت أبي عن سمعي حتى
وأمي تفحص حملها في العيادة الخاصة" (العنقاء :ص 174 ). فكما هو واضح أن
الراوية تتحدث عن ما حولها ، إبان حمل أمها بها .
أساليب سريالية أخرى :
ويظهر
الاتجاه السريالي في طيف واسع من الأدوات والوسائل والأساليب التي يبثها
الكاتب في ثنايا قصصه . فنجده يستخدم
تقنية الحلم، وكذلك يستخدم أسلوب التمازج بين الحلم والواقع في قصص مثل (الصمت ) حيث
نجد السرد يضع الشخصية القصصية وهي تعيش صورة الحلم، ثم تنتبه من النوم لتفحص
المكان، فتسمع التلفزيون وأحاديث الزوجة في الهاتف، ويمضى هذا التمازج يراوح بين
فقرات القصة (الصمت: ص 75).
والأمر
كذلك في قصة (غفوة ) حيث نجد الشخصية تتمدد أمام شاشة التلفزيون تتابع أحداث مبارة
رياضية ، ولكنها تغفو لترى " نور يشع من سقف المنزل ،طار كما يحلق النورس ..
فانهالت عليه عيارات نارية " ثم يعود السرد إلى حالة اليقظة " كان فريق
ناديه المفضل يسجل هدفه الثاني" (غفوة: ص 81).
والأمر
كذلك في قصة (ألم) حيث نجد السرد يصف الشخصية بالقول "تقطعت أنفاسه والعرق
يتصبب بغزارة ، كانت هي ، أخذ يركض ، شاهد أحدهم ، لحق به ، وتبعه الآخرون ، فتح
عينيه ، نهض من الفراش ، وجدها في غرفة الأطفال" (ألم: ص80).
كما
نجد التمازج بين عالم الأموات والأحياء . حيث يروي الميت أو المحتضر الأحداث حوله،
كما في قصة (البياض ) حيث نجد السرد يصف مشهد حادث مروري " عند خطوته الأولى
انطلقت عربة تحمل أرقاما أجنبية مرقت كالسهم فوق جسده فلطخ الدم الإسفلت الأسود .
زرع إبهامه في فمه ، أطل وجه أمه باسما ، هم بإخراج إصبعه من فمه غير أن انطفاء
أنفاسه جعل صورته التي أخذتها أجهزة الشرطة بفم مفتوح وإبهام معلق في فضاء أبيض ،
لم يستطع محللو الصورة معرفة سببه"( البياض:ص 86).
وفي
صورة أخرى في قصة (أنفاس الرحيل) نجد الراوي يذكر حادثا مروريا أيضا حصل له "جسمي
بين الهيكل المهشم ، انساب دمي على إسفلت الطريق ، وأخذ نفسي يخفت بينما هناك حراك
حولي وناس يستعجلون إخراجي حتى لا تلتهمني النيران ، لم أعد أشعر بشيء وأحدهم يقول
بسكينة وهدوء : مات الولد لا إله إلا الله " (أنفاس الرحيل: ص 126).
ونجد
أن الكاتب يستخدم أسلوب تبادل الأدوار في عرض المشهد القصصي، سواء عن طريق الحوار
أو السرد، ففي قصة (القنبرة ) نرى الحوار يأتي من عالم الإنسان، ثم يعقبه سرد من عالم الحيوان ، بما يشيء بأنه
تعليق على الحدث الإنساني (القنبرة :ص 15). وفي قصة (السجن) نرى السرد يراوح بين
الحديث عن إمام المسجد الضرير تارة، وبين حديث الشخصية الرئيسة عن نفسها تارة أخرى
(السجن:ص8).
ونظرا
لولع الكاتب بالاتجاه السريالي نجده يطور أداة تحقق له هذه الرغبة ، ويستخدمها في
قصصه ، فنراه يستخدم تقنية تتابع الصور في تسجيل مرئي ، حيث يتضمن النص القصصي
مشهدا يستعرض شريطا مصورا ، فيستغله الكاتب لتتابع الصور، وتداخل الأحداث،
والأصوات، وتكوين مشاهد تغريبية ، ويستخدم فيها أداوته الأسلوبية المحببة كالقطع
،وتسارع الأحداث، ويظهر هذا في قصتين هما (الشريط: ص 110) و(محمد المزعل: ص 115،
117).
ومن
التقنيات التي يستخدمها الاتجاه السريالي تغريب الواقع ، أي إضفاء سمات على الواقع
تجعله عالما ماضيا ، أو عالما غير عالمنا ، وقد ورد في قصص كاتبنا هذا الأسلوب من مثل ما
ورد في قصة (الرحلة ) حيث يأتي السرد مستهلا بالقول"بعد ألف عام عاد ، أخذ سيارة أجرة .." (الرحلة : ص 58).
وقد
يرد التغريب في العنوان كما يرد في السرد ، من مثل ما ورد في قصة (العنقاء ) حيث
إن هذا العنوان ينحو بالقص منحى أسطوريا ،
كما يرد في السرد قول الشخصية "اختلط عرقنا مع تفجر رغائبنا المكتنزة منذ بدء
الخليقة " (العنقاء :ص 182).
كما
أنه مما يلحظ في أغلب قصص المجموعة ضعف العلاقة بين عنوان القصة وفحواها، وهو ما
يمثل جانبا سرياليا أيضا، إذ إن هذا الانفصام بين العنوان وبين النص يؤدي إلى
تغريب النص، ومن ثم تأثير وقعه المدهش على القارئ .
ويتميز
الاتجاه السريالي بلغة موحية ، تشيء بالشيء أكثر مما تعنيه ، وتأتي الصور فيه حادة
ذات وقع صادم ، وهي في ذلك ترث النسق العجائبي التي تنتهجه المدرسة السريالية .
ويمكننا أن نشير إلى مجموعة من الصور في قصص المجموعة توضع هذا الاتجاه من مثل :
-
"شعرت بالحياة تسري في داخلي ،
وينبثق عبر البحر نور يرتفع إلى السماء " (السجن:ص 13).
-
" في الفندق تناول الغداء مع صوت
زوجته " (الشرى: ص 68).
-
"
لما اقتربت ألقى جسده الذي لا يملك بين عجلاتها
" (إيلاف : ص 84)
-
شعرت بأني أحلق في أجوائها ...زرعت كفي
على ظهرها دافعا وأنا أواصل الحديث "
(الغرفة الثالثة : ص 140)
-
"
في الحافلة جلس صمتي بجواري " (الشخير: ص 165)
ولعل
مما يدخل تحت هذا الباب تلك المحادثة الطويلة في قصة (مريم) بين الشخصية الرئيسة وشخصية
اسمها مريم، فنفاجأ و تفاجأ الشخصية بعد لقائها بعد عام أن مريم هذه ليست امرأة ، وإنما
هي رجل (مريم : ص 46 ).
-
ومما يوظفه الاتجاه السريالي ، أسلوب التكرار ، حيث يمنح العمل إيقاعا خاصا وتنوعا
، وعادة ما يكون الهدف من استخدامه نقل حالة نفسية ،وفي بعض الأحيان يحدث تجاوب
بين وجود التكرار وما يسمى نظرية الارتباط ، أي وصل مجموعة من الصور تبدو للقارئ
غير موصولة (د.حامد أبو أحمد : قراءات في القصة القصيرة، ص 87) ونجد أن هذا الأسلوب قد وظفه الكاتب توظيفا
موفقا ، ففي قصة (الذئبة: ص70) نجد أن السرد يأتي بالقول: "فأخذتها إلى حيث
تجلس فلم نعثر عليها ،كان مقعدها خاليا". ثم يرد المعنى نفسه في قول الشخصية
" كان دوري يسبقها، لما خرجت من عند الطبيب لم أجدها ، كان مكانها فارغا". وفي قصة (العون:ص73) نجد السرد يرد بالقول "قال
ابني المريض : .. اليوم سوف تمطر السماء ، حدقت فيه مشدوها، ولم أعلق . في التاسعة
ليلا وهو يقرأ أخبار ناديه الرياضي في صحيفة صفراء لفظ أنفاسه ،فيما كانت السماء
تمطر في الخارج ".
والأمر
كذلك في قصة (البياض:ص 86) في قول السارد"فأخذ يمص إبهام يده اليمني.. قالت
المتحدثة في الهاتف : أما زالت تمص إبهامك ". ثم عند وقوع الحادث له "
زرع إبهامه في فمه".
الكتابة الآلية وتداعي السرد:
وإذا
كانت سمات الاتجاه السريالي ترد في أغلب نصوص الشقحاء القصصية ، ولكنها قد تتخلف
في بعض النصوص ، فإن هناك سمة سريالية تطبع نصوص الكاتب جميعها بلا استثناء ،
ولعلها سمة أسلوبية سائدة لدى الكاتب فيما يكتبه بعامة ، هذه السمة هي ما يطلق
عليه في التصنيف الأسلوبي : الكتابة الآلية . ويأخذ السرياليون بهذه السمة في
كتابتهم انطلاقا من توجههم نحو العفوية ، والكتابة من خلال إملاء الذهن المباشر
بدون أي رقابة فكرية يمارسها العقل عليه، ولهذا تأتي الكتابة السريالية في انثيالاتها
وتداعيها نتاجا للتداعي الحر غير الموجه .
وأعتقد
أن الشقحاء في هذا الجانب يترك لسجيته العنان في أن تعرض من الأفكار، وتورد من
الأحداث ،وتصنع من الشخصيات كما تريد ،بدون أي رقابة منه عليها، أو مراجعة لما
خطته يده فيها. ولعلي لا أبتعد كثيرا عن الحقيقة حينما أقول إن هذه السمة قد أملت
على الكاتب عنوان مجموعته ، فلم يضبطه بتحديد النوع الأدبي الذي يضمه ، حيث جاء
العنوان فضفاضا فهو (حكايات وقصص قصيرة ) وقد جاءت المجموعة كذلك في أنها تداعيات
ذهنية قد ترى فيها قصة قصيرة أحيانا، أو حكاية أحيانا أخرى، أو خاطرة جاء عرضها
خاطفا. وقد تكون الحكاية أو القصة القصيرة مما لا يحتمله إلا عمل روائي لكثرة
أحداثه ، وتباينها ،وتعدد شخوصه.
ويمكننا
القول باطمئنان إن جميع قصص المجموعة، وجميع فقراتها ممثلة لهذا الاتجاه ، إلا أنه
من أجل إيضاح أبعاد ذلك ومياسمه في هذه المجموعة يحسن بنا أن نورد شواهد تمثل ذلك،
فمن مظاهر الكتابة الآلية لدى الكاتب :
-
التداعي الحر ، وانثيال السرد ، حيث نجد السرد لا يكتفي برسم المشهد أو الصورة ،
بل يختمها بما لا يحقق أي إضافة من مثل :ما ورد في قصة ( ارتعاش الرمل: ص136 )
" طلب الرجل العجوز من السائق إيصاله إلى منزل زوج ابنته ،وهي تترجل همست في
أذنه بأنها تنتظره عند الظهر لما تحركت السيارة" فنلحظ أن جملة (لما تحركت السيارة ) قد جاءت
بعد انتهاء الفقرة من تبليغيتها ، ولم تؤد أي إضافة ذات بال ؛ لكنها جاء نتاج
الاندفاع نحو الاسترسال.
كما
نجد هذا الأسلوب يظهر في استغراق كل حدث، وتتبعه، وتعليله حتى لو أدى ذلك إلى قطع
تسلسل تراتب الأفكار في السرد ، وفصل أجزاء الفكرة الواحدة ، التي يعالجها الكاتب
بما يماثل البتر للجملة، وذلك من مثل ما
ورد في قصة ( فريج :ص93) " أمام الباب ترجلت ، على أن نلتقي بعد غروب الشمس ،
وفي المساء . هنا يبدأ انحراف السرد عن وجهته بالقول(في مكتبي بمؤسسة العقار
التجاري التي فتحتها باسم زوجتي حتى أوفر موردا آخر) ليعود السرد إلى وجهته
بالقول: جاء صوتها معتذرا . ثم يعود السرد إلى الانحراف مرة أخرى بالقول (فقد أتت شقيقتها المقيمة في
الظهران مع أطفالها وزوجها لقضاء الإجازة التي حصل عليها) وعلى أن أحضر في العاشرة ليلا". فيمكننا أن
نلحظ في هذه الفقرة بوضوح هذا الاستغراق والتعليل الذي لا مكان له ، وقد فتت أجزاء
الفقرة، وقطع التراتب بين أطرافها. فكما هو واضح فإن الاستغراق في الحديث عن
المكتب وتعليل حدوثه بالقول " في مكتبي بمؤسسة العقار التجاري التي فتحتها
باسم زوجتي حتى أوفر موردا آخر" وكذلك
الحديث عن شقيقتها وزوجها ، وتعليله لعدم حضورها في الموعد المحدد بالقول" فقد أتت شقيقتها المقيمة في
الظهران مع أطفالها وزوجها لقضاء الإجازة التي حصل عليها" فالفقرة كما هو
واضح جاءت للتعليل ، والتعليل أيضا أقحم عليه تعليل آخر. ومما يعمق هذا الاتجاه عدم وجود علامات الترقيم،
أو فقدها لدلالتها، حتى إن القارئ يحتاج إلى قراءات متعددة للمقطع لوضع علامات
الترقيم المناسبة. وهذا كثير في كتابة
القاص ، ومثله ما ورد في قصة (الغرفة الثالثة: ص 139) .
-
تتابع الأحداث بصورة متسارعة تجعل القارئ في سباق معها ، فهي إشارات سريعة لا تمسك
بواحدة إلا وتمضي وتواجه غيرها ، وفي ما ورد في مستهل قصة (العطر: ص 23) أحد
الأمثلة لهذه الظاهرة السائدة في أسلوب الكاتب، فالسرد يأتي بمثل" في الرابعة من العمر ، كلف
والدي بالعمل في السفارة في دمشق ، وبعد عشر سنوات عدت بعد أن عثر عليه ميتا في
سيارته بمواقف سيارات تلك السفارة . بمعونة من جدي اشترت أمي منزلا في حي متوسط
بمدينة الرياض ، وفي العام الثالث أقنع جدي والدتي بالزواج ،فكان أن تركتني وأختي
في كنفه ، ولما تخرجت من الجامعة تزوجت ابنة عمي ، التي طلبت الطلاق في نهاية
الأول" .
والأمر
كذلك في تعدد الشخصيات ، وهو أمر جاء نتاجا للكتابة الآلية التي لا ترشد دخول الشخصيات
لمسرح الأحداث ، وكذلك تشعب الأحداث نفسها، وتتابعها بصورة تولد تلقائيا شخصيات أخرى،
مع أنها قد لا تكون ذات أهمية في تطوير القص. وقد حاولت إحصاء ما يمكن الإشارة
إليه بوصفه شخصية قصصية فوجدته يتجاوز عشرين شخصية في مثل قصة (أبو سعد: ص 30).
وهو عدد كبير على الأعمال الروائية ، فكيف به في قصة قصيرة ، وهذا يجعل القارئ
يلهث للإمساك بالشخصية ،لكنه ما إن يتم له القبض عليها إلا وتسلمه لشخصية أخرى
وهكذا، وانظرا لذلك مثالا آخر في قصة (العنقاء ).
ومما
يواكب هذا الاتجاه في حشد الأحداث، وتعدد الشخصيات شيوع القطع أو البتر بصورة صادمة،
بحيث يشعر القارئ بانتقالات مفاجئة بدون أي مسوغ أو تمهيد ، ففي قصة (الأستاذ:ص55)
مثلا ،نجد المقطع التالي : " جاء زوجي متأخرا ، طلب إعداد حقيبة سفرة ،وأنا
في مكتبي أقلب ملفات الموظفين فتح الباب بهدوء ، كانت أختي جاءت لزيارتي
...".
-
إقحام معاني فرعية في المعنى الرئيس ، وهي ظاهرة شائعة لدى الكاتب ، ولعلها تساوي
في شيوعها سمة التداعي الحر ، بل لعلها كانت نتاجا لها . وقد مثلنا لها عند
الإشارة إلى التداعي الحر ، ونزيد الأمر بيانا بما ورد في قصة (السجن:ص6،7)
"مررت بجوار المدرسة التي كنت أعمل فيها ، ودخلت السوق. أكثر المحلات مغلقة
ورائحة الطعام في المطاعم تشعرني بالجوع ، ارتفع أذان العصر فدخلت لأداء الصلاة .
تناولت بعض الطعام وتجرعت كوبا من الشاي". فنلحظ في هذه الفقرة أن جملة (ارتفع
أذان العصر فدخلت لأداء الصلاة) قد أقحمت بين ما يمكن أن يكون إكمالا للمعنى في
الجملة الأولى؛ لكن السرد بعد ذلك جاء استهلاليا ، وفي فقرة مستقلة (تناولت بعض
الطعام وتجرعت كوبا من الشاي). وبلا شك فإن المتمعن سيلحظ في هذا النص كثيرا من سمات
الكاتب في الكتابة الآلية ، حيث نرى فصل أجزاء الفقرة الواحدة ، والبتر، والاستئناف
بدون مقدمات .
وقد
تطول الفقرات المقحمة حتى تطغى على الفقرة الرئيسة ، ومن ذلك مثلا ما ورد في قصة
(المحطة الأخيرة:ص 144، 145). وكذلك في قصة (العنقاء ) ، وسأقتبس مثالا من هذه
القصة ليتبين عمق هذه الظاهرة لدى الكاتب . " في مساء يوم (وبعد مكاشفة
ليليلة كنت أجلس مع سامر في مقعد على البحر الممتد أمامنا نلاحق موجه المتكسر على
صخور الشاطئ ونلعق الإيسكريم؛ حديثه الحالم ينزعني من همومي ؛ تقاسيم وجهه تزرع
الأمان وهو يضم كفي بيده اليمني) هجرني النوم فخرجت إلى الفناء" فإن الفقرة
الرئيسة تتكون من "في مساء يوم .... ......هجرني النوم فخرجت إلى الفناء
" لكن هذه الجملة البسيطة اقتحمتها
عدة جمل أفقدتها تماسكها .
وماذا بعد:
وبعد
، فإنه من خلال قراءتنا لهذه المجموعة ، ومن خلال الاطلاع على كثير من كتابات
الشقحاء السردية، يمكن القول بكل طمأنينة ، إن الاتجاه السريالي بعجائبيته وقبوله
للكتابة الآلية والتداعي الحر هو خير اتجاه يستوعب كتابات القاص، ويمكن من خلال هذا
الفهم توجيه كتاباته وجهة نقدية سليمة، والخروج منها بدراسة نقدية ذات قيمة تقبل
تجاوزاته ، وتقدر إبداعاته.
وأخيرا
أجدني مضطرا إلى الإجابة عن تساؤل قد يرد على الذهن مفاده: ما مدى قبول أدبنا لهذا
الاتجاه عامة، وكتابات الشقحاء خاصة بوصفها تصنف في هذا الاتجاه ..؟
والإجابة
النقدية قد تطول في هذا المجال ،لكني أستطيع أن أوجزها بالقول : إن السريالية كانت
نتاج مرحلة اجتماعية مرت بها أوروبا في بدايات القرن العشرين ، ومع مرحليتها الزمنية،
وكونها نتاجا لم ينبت في أرضنا ، فإنه يتحتم علينا الوقوف معها موقف الدارس الفاحص
لهذا الاتجاه، فما وجدنا من أساليبه
ملائما لثقافتنا ، فلا بأس من الأخذ به، وما وجدنا من أساليبه مغيبا
لعقولنا وأذواقنا ، معينا على تردي أدبنا في مجاهل العتمة، واللغو الكلامي باسم
الأدب ، فأولى بنا تركه، فنحن أحوج ما نكون لعقولنا وأوقاتنا من ضياعها في هذيان
القول.
وأما
سريالية كاتبنا الأستاذ الشقحاء ، فإني أراها توفق أيما توفيق حينما يكون للمشهد
العجائبي مغزى فكري أو جمالي ، ولنا من
قصص هذه المجموعة التي بين أيدينا مثال جيد على ذلك ، يتمثل في قصة (البياض: ص85)
التي تنحو إلى سريالية ذات مغزى فكري إنساني جميل، يشف عذوبة ورقة. لكن الكاتب
يشطح كثيرا حينما تغريه تهويمات القول ،
والانسياق في تداعيات لفظية، أو عجائبية لا تقدم سمة جمالية أو فكرية تذكر.