إذا كنت
بعد عام على رحيلها جاء من غربته في
زيارة عمل كان صوته قلقا وهو يسأل عنها، أعرف أنها نشطة في مجال عملها الرسمي كمعلمة
ومشرفة تربوية ثم مديرة مدرسة وعملها التطوعي في المجال الاجتماعي كعضو في جمعية
نسائية أهلية.
هي ابنة عمي وكذلك ابنة خالتي، جاء
زواجنا وأنا أستعد لبعثة دراسية في أمريكا استمرت عشر سنوات، أنا حصلت على
الدكتوراه وهي على عدة دبلومات في مجالات مختلفة، معها كانت تشارك في نشاطات
اجتماعية وسياسية قربتها من حزب صغير في الولاية التي ندرس في عاصمتها يدافع عن
حقوق المشردين .
لما عدنا كان معنا ابني راشد بسنواته
الثمان، هي وجدت في مجال التعليم طموحها وأنا من خلال رئاسة مجلس إدارة شركة مالية
ناشئة ساهمت بها أسرتي الميسورة بنصيب وافر من الأسهم في رأس المال حتى أطبق
نظريتي الاقتصادية .
قال: بعد أن جلس في المقعد المقابل
لمكتبي . الأمر يحتاج إلى وعي !
قلت: سوف أفهم الأمر بعد سماعه.
قال: كل شيء في الملف.
قلت: وأنا أتناول منه الملف . . نشرب
القهوة ونتناقش . .
قال: حضوري كان لموعد سابق . . معي
مرافقون مرتبط تحركنا ببرنامج عمل.
تركت الملف وأوصلته لباب المكتب دفعني
الفضول لمتابعته وهو ينزل الدرج للدور الأرضي حيث مقاعد انتظار المراجعين، لمحت
رجلين وامرأة سحناتهم أوربية، اتجه نحوهم وغادر الجميع المبنى.
عدت للمكتب، أحضر السكرتير ملف البريد،
مد يده لحمل الملف الذي تركه الرجل، شيء في داخلي دفعني إلى سحبه منه.
قلت: سوف أطلع عليه وأضمه للبريد.
طلبت منه تركي ساعة لدراسة البريد كما
هي عادتي وتحويل المكالمات للمساعدين.
كانت صورتها أول شيء صافحني ثم ورقة عقد
زواج مدني موثق يحمل اسمها واسم غير اسمي، تذكرت أنه اسم الرجل الذي كان قبل دقائق
أمامي، وفي الملف صورة لها معه في مطعم وأخرى في مؤتمر، من التي تدعى لها كمشارك، تاريخ
العقد يعود لسنوات خمس قبل موتها اثر وعكة حمى لم يتم تشخيصها بدقة، كانت ضمن وفد
تعليمي ثقافي لباريس تعرفت عليه كمترجم ومرافق وبالتالي أصبحت باريس محطة لرحلاتنا،
فيها كانت تقضي وقتها مع زوجها الثاني بينما أنا في انشغال بمهامي وفق جدول اعددنا
ه مسبقا لمثل هذه الرحلات اكتسبناه من خلال رحلة الدراسة .
من الورقة الثانية عرفت إن ابننا رامي
جاء بعد زواجها وكذلك ابنتنا رانية، العرق تصبب مني وأنفاسي تتقطع، الورقة الثالثة
صورة عقد شراء شقة في باريس باسمها فيها توثيق قانوني بتنازلها عنها لزوجها كمهر
مقدم منها له.
لم أواصل تقليب باقي الأوراق وبرز طرف
صورة لها معه يطوقها بذراعه في مدرج أحد ملاعب كرة المضرب، أعدت ترتيب الأوراق
ودسستها في خزنة المكتب.
في المنزل ونحن على طاولة الغداء راشد
ورامي ورانية والخادمة تقدم لنا الأطباق التي أعدها الطباخ أخذت أحدق في أطفالي
الثلاثة، راشد في منتصف سنته الرابعة عشرة ورامي ذو السنوات الخمس ورانية ذات
السنوات الأربع وهاجس يقول هل هم أبنائي ؟ قطع هواجسي رنين الهاتف كان أخي يذكرني
بلقاء اخر الشهر الأسري في استراحة العائلة بطريق الثمامة .
في غرفة النوم أعدت تفتيش خزانة الملابس
وخزنة المستندات وأدراج التسريحة وباقي الخزائن في الغرفة كل شيء عادي، أوراقها
ومذكراتها ولفيف من الرسائل الرسمية والخاصة ووثائقها الرسمية وشهاداتها العلمية
حتى سندات الأسهم وحسابها البنكي الذي لم أقربه حتى اليوم .
اتصلت بالرجل الذي خلق قلقي فكان هاتفه
مغلق فاتصلت بمن أعرف في باريس للبحث عنه تأخرت المعلومات طلبت من صديقي زيارة
الشقة التي كانت تملكها، وجد بها ساكنا جديداً قام بشرائها منذ أشهر.
قال راشد: بعد ثلاثة أشهر. . أحدهم اتصل يسأل عنها . .
قلت: قال اسمه.
قال: نعم لكن نسيت والذي عرفت انه يتكلم
من القاهرة.
قلت: تكرر اتصاله
قال: نعم وتذكرت أنه ذات مرة استقبلنا
في المطار
تخالط الآمر هاهي رانية تدخل في الصورة،
كنا كل سنة نقضي جزء من الصيف في القاهرة، ولنا شقه تمليك فارهة وسيارة، وبعض من
عمال المؤسسة من مصر ولنا مكتب اتصال يسهل تعاملاتنا المالية .
قررت السفر للقاهرة وهناك رحب بي بواب
العمارة وجاءت زوجته لخدمتي كل شيء في مكانه أخذت أقلب الخزائن ورفوف الغرف حيث
أجد بعض صورنا وكتب كانت تقتنيها تنمي منا شطها الاجتماعية والتربوية وتثقفها
سياسيا، كنت أتعجب من نهمها القرائي وقدرتها على العمل .
نمت من إرهاق أيام ثلاثة من البحث كل ما
أعرف أن اسم الرجل صالح، انه اسمي لكن أنا صالح عبد الرحمن وهي سامية عبد الخالق
فهل هو صالح عبد العزيز بعد وصولي لهذه النقطة المأزق.
زرت المكتب وطلبت من مديره الحجز لي على
رحلة الرياض كما هي عادتي وسريعا، بعد التأكد من السفر خلال أربع وعشرين ساعة
أنجزت بعض المهام واتصلت بأطفالي أخبرهم بعودتي .
وأنا أترجل من عربة المكتب وقف بواب
العمارة ولوح بيده لسيارة تحركت مغادره لم يتنبه قائدها فاختفت في الزحام سلمني
البواب مغلفا مغلقاً قال إن أحدهم أحضره .
عند باب المصعد تذكرت أنها تتحدث كثيرا
عن وهم تفوق الرجل في الشأن والقيمة وفق عقدة نقص مستحكمة تتجاوز البعد الديني
وهاجس حقوق الإنسان ودور المجتمع المدني الذي صيغ حراكه بثقافة وفكر تعكس الخصوصية
المدمرة في مواجهة الآخر وفق أسئلة شتى تصل بنا في النهاية إلى عجزنا عن اكتشاف
السر.
في المصعد تمالكت هدوئي ومعي فتاتان
ورجل عجوز يشاركونني الدور، أغلقت باب الشقة بالمفتاح، فتحت المغلف كانت صورتها
وكفها تمسك بكف آخر في صورة للذكرى، نعم كان صالح عبد العزيز مغتربا فضل القاهرة
بعد رحلة دراسية تكللت بالنجاح، فاحتضنته الجامعة بصفة مؤقتة ولميوله الأدبية
وتهافت دور النشر على كتاباته الأدبية والفكرية سرقه الوقت، ولما التقى بها منذ
سنوات ثلاث في ندوة فكرية اختلطت فيها المواقف تزوجته مع معرفته بأنها متزوجة
ومستواها الاجتماعي أفضل من مكانته الأدبية؛ قضت أسبوعا من العسل في الإسكندرية
تركت راشد ورامي عند والدته المتزوجة من موظف في السفارة .
لم تترك له شيئا إذ لم تتمكن من شراء شقة
ولكن كانت تساهم في إعادة طبع بعض مؤلفاته. عقد الزواج بخط قلمها ذي المداد الأخضر
وكتابتها التي أعرف، غير موثق وتاريخه بعد ولادة رانية بسنة، شيء من الارتياح
دغدغني وأنا أقلب الأوراق التي لم تكن أكثر من أربع ورقات وثلاث صور، قررت حرقها
دخلت المطبخ وأشعلت فيها النار؛ تنبهت على الهاتف كان مدير المكتب يطلب مني
الاستعداد للسفر.
في الذكرى الثامنة لوفاتها وأنا أزور
راشد الذي يدرس في لندن تذكرت أنها كانت تزور المكتبات وتتركني أتجول وحيدا ونلتقي
في مطعم وجدنا فيه حاجتنا؛ راشد يشارك زملاءه حفاوتهم بتخرج أحدهم.
لاحت المكتبات أمامي وأنا أتجاوز المطعم
المعتاد، لم أشعر بالتعب، دخلت المكتبة الأولى والثانية والثالثة وفي الرابعة
صافحني اسمها سامية عبد الخالق على كتاب من القطع الصغير يحمل عنوان ( إذا كنت )
ترددت في اقتنائه.
قال البائع: إنها الطبعة الثانية
للرواية.
قلت: تعرف المؤلفة ؟
قال البائع: وصلتنا المسودة بالبريد . .
وبعد صدور الطبعة الأولى انتقلت لرحمة الله.
قلت: ومن سمح بالطبعة الثانية.
قال البائع: زوجها.
اقتنيت نسخه من الرواية على الغلاف
الأخير كتب الناشر ( المؤلفة حسناء تجلس على منصة، تقاتل في سبيل وجودها، أنطقت
بطلة الرواية لتقول ما تريد في ظروف عامة ضد الظلام، عبر مجتمع هي شكلته، حتى تبحث
من خلاله حرية التعبير وحق المشاركة؛ في حراك محكوم بالتبعية والمنفعة بين أطراف
تتشح بالمسكوت عنه وتشكل وفق منطق مختلف جوهره الخصوصية ) دسستها في جيب المعطف،
دخلت المطعم لم يتغير شيء وان تبدل العمال انحنت النادلة تسألني عن طلباتي ملامحها
العربية دفعتني إلى الرد بالعربية ابتسمت وهي تقدم الطلب حركت الكتاب ثم حملته .
همست النادلة: ( إذا كنت ) عنوانا غريبا
. .
غمغمت: وآنا اسحب الكتاب منها وادسسه
بقلق مرة ثانيه في جيب المعطف . . نعم . . نعم ناولتها قيمة الطلب ونهضت .&
* * * *